فصل: (بَابُ السَّلَمِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(بَابُ السَّلَمِ):

السَّلَمُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ آيَةُ الْمُدَايَنَةِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ وَأَنْزَلَ فِيهَا أَطْوَلَ آيَةٍ فِي كِتَابِهِ، وَتَلَا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدِينٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الْآيَةُ.
وَبِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» وَالْقِيَاسُ وَإِنْ كَانَ يَأْبَاهُ وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِمَا رَوَيْنَاهُ.
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ إذْ الْمَبِيعُ هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ السَّلَمِ):
تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْقَسِمُ إلَى بَيْعٍ مُطْلَقٍ وَمُقَايَضَةٍ وَصَرْفٍ وَسَلَمٍ، لِأَنَّهُ إمَّا بَيْعُ عَيْنٍ بِثَمَنٍ وَهُوَ الْمُطْلَقُ، أَوْ قَلْبُهُ وَهُوَ السَّلَمُ، أَوْ ثَمَنٍ بِثَمَنٍ فَالصَّرْفُ، أَوْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ فَالْمُقَايَضَةُ.
وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَايَضَةِ قَبْضٌ فَقُدِّمَا وَشُرِطَ فِي الْآخَرِينَ، فَفِي الصَّرْفِ قَبْضُهُمَا وَفِي السَّلَمِ قَبْضُ أَحَدِهِمَا، فَقُدِّمَ انْتِقَالًا بِتَدْرِيجٍ.
وَخُصَّ بِاسْمِ السَّلَمِ لِتَحَقُّقِ إيجَابِ التَّسْلِيمِ شَرْعًا فِيمَا صُدِّقَ عَلَيْهِ: أَعْنِي تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ، وَكَانَ عَلَى هَذَا تَسْمِيَةُ الصَّرْفِ بِالسَّلَمِ أَلْيَقَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ وُجُودُ السَّلَمِ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الظَّاهِرُ الْعَامُّ فِي النَّاسِ سَبَقَ الِاسْمُ لَهُ، وَيُعْرَفُ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيَّ بَيْعُ آجِلٍ بِعَاجِلٍ.
وَمَا قِيلَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ غَيْرُ صَحِيحٍ لِصِدْقِهِ عَلَى الْبَيْعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَعُرِفَ أَيْضًا أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى عَقْدِهِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ بِأَنْ قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِعْتُك كَذَا حِنْطَةً بِكَذَا إلَى كَذَا، وَيَذْكُرُ بَاقِي الشُّرُوطِ أَوْ يَقول الْمُسْلَمُ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ إلَى آخِرِهِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ وَعِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَصِحَّةُ الْمَذْهَبِ عَنْهُ عُسْرُ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَعْنَى، وَمَعْنَى أَسْلَمْتُ إلَيْكَ إلَى كَذَا وَبِعْتُكَ إلَى كَذَا فِي الْبَيْعِ مَعَ بَاقِي الشُّرُوطِ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَذَاكَ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ لَا بِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ.
وَعُرِفَ أَنَّ رُكْنَهُ رُكْنُ الْبَيْعِ.
وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهِ شِدَّةُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ شَرَائِطَهُ.
وَأَمَّا حُكْمُهُ فَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ فِي الثَّمَنِ، وَلِرَبِّ السَّلَمِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ الدَّيْنُ الْكَائِنُ فِي الذِّمَّةِ، أَمَّا فِي الْعَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَبْضِهِ عَلَى انْعِقَادِ مُبَادَلَةٍ أُخْرَى عَلَى مَا سَيُعْرَفُ وَالْمُؤَجَّلُ الْمُطَالَبَةُ بِمَا فِي الذِّمَّةِ، وَمَعْنَاهُ لُغَةً: السَّلَفُ، فَاعْتُبِرَ فِي الشَّرْعِ كَأَنَّ الثَّمَنَ يُسَلِّفُهُ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ لِيَقْضِيَهُ إيَّاهُ، وَجَعَلَ إعْطَاءَ الْعِوَضِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ فِيهِ قَضَاءً كَأَنَّهُ هُوَ، إذْ لَا يَصِحُّ الِاسْتِبْدَالُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَجَعَلَ الْهَمْزَةَ فِي أَسْلَمْتُ إلَيْكَ لِلسَّلْبِ بِمَعْنَى أَزَلْتُ سَلَامَةَ رَأْسِ الْمَالِ حَيْثُ سَلَّمْتُهُ إلَى مُفْلِسٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ بَعِيدٌ، وَلَا وَجْهَ لَهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمَدْفُوعِ هَالِكًا، وَصِحَّةُ هَذَا الِاعْتِبَارِ تَتَوَقَّفُ عَلَى غَلَبَةِ تَوَائِهِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْوَاقِعُ أَنَّ السَّلَمَ كَذَلِكَ بَلْ الْغَالِبُ الِاسْتِيفَاءُ.
قولهُ: (وَهُوَ) يَعْنِي السَّلَمَ (عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ آيَةُ الْمُدَايَنَةِ) أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدِهِ.
وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ وَأَذِنَ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الْآيَةُ، وَعَنْهُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَزَّاهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمُصَنِّفِينَ إلَى الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ فِي صَحِيحِهِ لِأَبِي حِسَانَ الْأَعْرَجِ وَاسْمُهُ مُسْلِمٌ، وَالْمُصَنِّفُ قَدْ ذَكَرَ لَفْظَ الْحَدِيثِ: أُحِلَّ السَّلَفُ الْمَضْمُونُ، فَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: الْمُرَادُ بِالْمَضْمُونِ الْمُؤَجَّلُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: السَّلَفُ الْمُؤَجَّلُ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ صِفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لَا مُؤَسِّسَةٌ، وَيَكُونُ مَا رَوَى الْمُخْرِجُونَ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ مِنْ قولهِ الْمَضْمُونُ إلَى أَجَلٍ جَمْعًا بَيْنَ مُقَرَّرَيْنِ.
وَقولهُ مُسَمًّى أَيْ مُعَيَّنٌ (وَ) كَذَا (بِالسُّنَّةِ) إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيهِ غَرَابَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» وَإِنْ كَانَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلْقُرْطُبِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عُثِرَ عَلَيْهِ بِهَذَا اللَّفْظِ.
قِيلَ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُرَكَّبٌ مِنْ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ»، إلَى أَنْ قَالَ: «وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَتَقَدَّمَ.
وَالرُّخْصَةُ فِي السَّلَمِ رَوَاهُ السِّتَّةُ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: «قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُسَلِّفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ. فَقَالَ: مَنْ أَسَلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسَلِّفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «إنَّا كُنَّا لَنُسَلِّفُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بِكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ».
وَلَا يَخْفَى أَنَّ جَوَازَهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، إذْ هُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لِلْحَاجَةِ مِنْ كُلٍّ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِرْبَاحِ لِنَفَقَةِ عِيَالِهِ وَهُوَ بِالسَّلَمِ أَسْهَلُ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمَبِيعِ نَازِلًا عَنْ الْقِيمَةِ فَيُرْبِحُهُ الْمُشْتَرِي، وَالْبَائِعُ قَدْ يَكُونُ لَهُ حَاجَةٌ فِي الْحَالِ إلَى السَّلَمِ وَقُدْرَةٌ فِي الْمَآلِ عَلَى الْمَبِيعِ بِسُهُولَةٍ فَتَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ الْحَالِيَّةِ إلَى قُدْرَتِهِ الْمَالِيَّةِ فَلِهَذِهِ الْمَصَالِحُ شُرِعَ.
وَمَنَعَ بَعْضُ مَنْ نَقَدَ الْهِدَايَةِ.
قولهُمْ السَّلَمُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، قَالَ: بَلْ هُوَ عَلَى وَفْقِهِ فَإِنَّهُ كَالِابْتِيَاعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ.
وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ وَبَيْنَ الْآخِرِ، بَلْ هُوَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ وَمَصْلَحَةِ النَّاسِ.
قَالَ: وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَتَلَا الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ انْدَفَعَ فِيهِ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ قِيَاسَ السَّلَمِ عَلَى الِابْتِيَاعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى بَيْعِ الْمَعْدُومِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ عَادَةً مَعَ الْحُلُولِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ، وَأَطَالَ كَلَامًا وَحَاصِلُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ الْقَوْمَ قَاسُوا السَّلَمَ عَلَى بَيْعِ الْمَعْدُومِ فَيَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَأَنَّ قِيَاسَهُ عَلَى الثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ أَوْلَى بِهِ، وَلَيْسَ كَلَامُهُمْ هَذَا بَلْ إنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْأَصْلِيِّ فِيهِ، وَكَوْنُهُ مَعْدُومًا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ عَادَةً لَيْسَ هُوَ مُعْتَبَرًا فِي مَفْهُومِ السَّلَمِ عِنْدَهُمْ بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ مِنْ عِنْدِهِ.
وَقولهُ أَيُّ فَرْقٍ إلَى آخِرِهِ يُفِيدُ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، وَكَلَامُهُ يُفِيدُ الِاعْتِرَافَ بِكَوْنِ بَيْعِ الْمَعْدُومِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.
ثُمَّ الْفَرْقُ ظَاهِرٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْبَيْعِ وَالْمَحِلِّ لِوُرُودِهِ فَانْعِدَامُهُ يُوجِبُ انْعِدَامَ الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ وَصْفٌ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَعَ صِحَّةِ الْبَيْعِ، فَقَدْ تَحَقَّقَ الْبَيْعُ شَرْعًا مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي الذِّمَّةِ وَصْفٌ يُطَابِقُهُ الثَّمَنُ لَا عَيْنُ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُفْهِمُ أَنَّهُ رَآهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَكَوْنُهُ فِيهِ مَصْلَحَةِ النَّاسِ لَا يَنْفِي أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بَلْ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ شُرِعَ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَالْمُرَادُ بِالْمَوْزُونَاتِ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهُمَا أَثْمَانٌ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُثَمَّنًا فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِمَا ثُمَّ قِيلَ يَكُونُ بَاطِلًا، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدِينَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ التَّصْحِيحَ إنَّمَا يَجِبُ فِي مَحِلٍّ أَوْجَبَا الْعَقْدَ فِيهِ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ.
قَالَ: (وَكَذَا فِي الْمَذْرُوعَاتِ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِذِكْرِ الذَّرْعِ وَالصِّفَةِ وَالصَّنْعَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا لِتَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ صِحَّةِ السَّلَمِ، وَكَذَا فِي الْمَعْدُودَاتِ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ كَالْجَوْزِ وَالْبِيضِ، لِأَنَّ الْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِيهِ سَوَاءٌ لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى إهْدَارِ التَّفَاوُتِ، بِخِلَافِ الْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانُ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، وَبِتَفَاوُتِ الْآحَادِ فِي الْمَالِيَّةِ يُعْرَفُ الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي بِيضِ النَّعَامَةِ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ كَمَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا يَجُوزُ كَيْلًا.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ كَيْلًا لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ وَلَيْسَ بِمَكِيلٍ.
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَدَدًا أَيْضًا لِلتَّفَاوُتِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمِقْدَارَ مَرَّةُ يُعْرَفُ بِالْعَدَدِ وَتَارَةٌ بِالْكَيْلِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَعْدُودًا بِالِاصْطِلَاحِ فَيَصِيرُ مَكِيلًا بِاصْطِلَاحِهِمَا وَكَذَا فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا.
وَقِيلَ هَذَا عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ.
وَلَهُمَا أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا بِاصْطِلَاحِهِمَا فَتَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا وَلَا تَعُودُ وَزْنِيًّا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ الْمُصَنِّفُ (رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَوْزُونَاتِ) أَيْ الَّتِي يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا (غَيْرُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ) أَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فَإِنْ أَسْلَمَ فِيهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَالِاتِّفَاقُ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَسْلَمَ غَيْرَهَا مِنْ الْعُرُوضِ كَكُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ ثَوْبٍ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَلَا يَصِحُّ سَلَمًا بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُثَمَّنًا وَالنُّقُودُ أَثْمَانٌ فَلَا تَكُونُ مُسَلَّمًا فِيهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فَهَلْ يَنْعَقِدُ بَيْعًا فِي الْكُرِّ وَالثَّوْبِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ أَوْ يَبْطُلُ رَأْسًا؟ حَكَى الْمُصَنِّفُ فِيهِ خِلَافًا (قِيلَ يَبْطُلُ) وَهُوَ قول عِيسَى بْنِ أَبَانَ (وَقِيلَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ) وَلَا يَبْطُلُ، وَهُوَ قول أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ، وَجَعَلَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ قول عِيسَى بْنِ أَبَانَ أَصَحُّ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَحِلِّ الَّذِي أَوْجَبَ الْمُتَعَاقِدَانِ الْبَيْعَ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ وَهُمَا لَمْ يُوجِبَاهُ إلَّا فِي الدَّرَاهِم، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِهَا بَلْ بِاعْتِبَارِ الثَّوْبِ وَلَمْ يُوجِبَاهُ فِيهِ فَكَانَ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدِي أُدْخِلَ فِي الْفِقْهِ لِأَنَّ حَاصِلَ الْمَعْنَى الصَّادِرِ بَيْنَهُمَا إعْطَاءُ صَاحِبِ الثَّوْبِ بِرِضَاهُ ثَوْبَهُ إلَى الْآخِرِ بِدَرَاهِمَ مُؤَجَّلَةٍ، وَهَذَا مِنْ إفْرَادِ الْبَيْعِ بِلَا تَأْوِيلِ إذْ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي، وَكَوْنُهُ أَدْخَلَ الْبَاءَ عَلَى الثَّوْبِ لَا يَقْدَحُ فِي أَنَّ الْوَاقِعَ بَيْنَهُمَا هُوَ هَذَا الْمَعْنَى وَفِيهِ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِمَا، وَإِدْخَال الْبَاءِ عَلَى الثَّوْبِ كَإِدْخَالِهَا عَلَى الثَّوْبِ الْمُقَابَلِ بِالْخَمْرِ فِيمَا إذَا اشْتَرَى خَمْرًا بِثَوْبٍ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ بَلْ يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْخَمْرُ وَهُوَ مُبْطِلٌ اعْتِبَارًا لِتَحْصِيلِ غَرَضِهِمَا مَا أَمْكَنَ قولهُ (وَكَذَا فِي الْمَذْرُوعَاتِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِذَكَرِ الذَّرْعِ وَالصِّفَةِ وَالصَّنْعَةِ وَلَا بُدَّ مِنْهَا) أَيْ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لِلضَّبْطِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الصِّحَّةِ.
وَعُرِفَ مِنْ تَعْلِيلِهِ هَذَا أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ السَّلَمِ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَضْبُوطًا عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ مِنْ غَيْرِ إفْضَاءٍ إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَلِهَذَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْبَسْطِ وَالْحُصْرِ وَالْبَوَارِي إذَا بَيَّنَ الطُّولَ وَالْعَرْضَ.
وَفِي الْإِيضَاحِ: يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْوَزْنِ فِي ثِيَابِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ لِبَقَاءِ التَّفَاوُتِ بَعْدَ ذِكْرِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ فَإِنَّ الدِّيبَاجَ كُلَّمَا ثَقُلَ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ، وَالْحَرِيرُ كُلَّمَا خُفَّ زَادَتْ انْتَهَى.
وَهَذَا فِي عُرْفِهِمْ.
وَفِي عُرْفِنَا ثِيَابُ الْحَرِيرِ أَيْضًا وَهِيَ الْمُسَمَّاةِ بِالْكَمْخَاءِ كُلَّمَا ثَقُلَ ازْدَادَتْ الْقِيمَةُ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْوَزْنِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْقِيمَةُ تَزِيدُ بِالثِّقَلِ أَوْ بِالْخِفَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي النَّصِّ الْمُفِيدِ لِشَرْعِيَّتِهِ إلَّا الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِمَا غَيْرُهُمَا.
لَا يُقَالُ: السَّلَمُ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُوم: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» وَدَلِيلُ التَّخْصِيصِ جَازَ أَنْ يُعَلَّلَ وَيُلْحَقَ بِالْمَخْرَجِ غَيْرُهُ بِهِ.
لِأَنَّا نَقول: ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يُخَالِفْ حُكْمُ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ الْقِيَاسَ لِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا خَالَفَ الْقِيَاسَ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ شَرْعِيَّةَ السَّلَمِ لَيْسَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَامِ بَلْ مِنْ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ فَالْعَامُّ وَهُوَ لَفْظُ مَا لَيْسَ عِنْدَك الْوَاقِعُ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ وَهُوَ لَا تَبِعْ مُطْلَقٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذِكْرِ الْأَجَلِ فِيمَا لَيْسَ عِنْدَكَ وَعَدَمِهِ، وَشَرْعِيَّةُ السَّلَمِ تَقْيِيدٌ لَهُ بِمَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْأَجَلَ فِي الْمَبِيعِ، أَمَّا إذَا ذَكَرَ الْأَجَلَ فَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ لَا بَعْضُهُ لِيَكُونَ تَخْصِيصًا بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ، بَلْ كُلُّ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ بِلَا ذِكْرِ أَجَلٍ عَلَى عُمُومِهِ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ وَكُلِّهِ مَعَ ذِكْرِهِ مَخْرَجٌ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ لَكِنْ بِشَرْطِ ضَبْطِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، كَمَا أَنَّ مَا عِنْدَهُ أَيْضًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَنْ غَيْرِ سَلَمٍ مَعَ جَهَالَتِهِ وَعَدَمِ ضَبْطِهِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّهُ مَعَ شَرْطِهِ مِنْ الضَّبْطِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِأَجَلٍ وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ أَجَلٍ، وَكَوْنُ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ لَيْسَ تَعْيِينًا لَهُمَا وَلَا أَمْرًا بِخُصُوصِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ السَّلَمِ، بَلْ حَاصِلُهُ أَمْرٌ بِتَعْيِينِ الْأَجَلِ وَالْكَيْلِ عَلَى تَقْدِيرِ السَّلَمِ فِي الْمَكِيلِ بَيَانًا لِشَرْطِ الصِّحَّةِ وَهُوَ عَدَمُ الْجَهَالَةِ.
يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ وَهُوَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةِ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ فَقَالَ: مِنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ يَعْنِي مِنْ هَذِهِ الثِّمَارِ فَلِيَكُنْ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ»، ثُمَّ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَادَ الْوَزْنَ لِيُفِيدَ عَدَمَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْكَيْلِ، فَإِنَّ سَبَبَ شَرْعِيَّةِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ الْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِرْبَاحِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُقِلِّ الرَّاجِي فَأُنِيطَ بِمَظِنَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى أَخْذِ الْعَاجِلِ بِالْآجِلِ وَإِعْطَائِهِ وَشَرْطُ الضَّبْطِ لِدَفْعِ الْمُنَازَعَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلِذَا أَجْمَعُوا عَلَى عَدَمِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ سَبَبَ شَرْعِيَّتِهِ لَا تَخْتَلِفُ وَهُوَ الْحَاجَةُ الْمَاسَةُ إلَى أَخْذِ الْعَاجِلِ بِالْآجِلِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ مِنْ الْقَزَّازِينَ فِي الْمَذْرُوعِ كَمَا فِي أَصْحَابِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، يَفْهَمُ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ سَبَبَ الْمَشْرُوعِيَّةِ الْمَنْقول فِي أَثْنَاءِ الْأَحَادِيثِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَلِذَا كَانَ ثُبُوتُ السَّلَمِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ بِالدَّلَالَةِ: أَعْنِي دَلَالَاتِ النُّصُوصِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلسَّبَبِ لِمَنْ سَمِعَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فِي الْمَذْرُوعَاتِ مَانِعٌ وَهُوَ أَنَّ الضَّبْطَ بِالذَّرْعِ دُونَهُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِمَا.
فَالْجَوَابُ حِينَئِذٍ.
إنْ قُلْتَ: الذَّرْعُ لَا يُضْبَطُ الْقَدْرُ كَمَا يُضْبَطُ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ بَلْ الذَّرَاعُ الْمُعَيَّنُ يَضْبِطُ كَمْيَّةَ الْمَبِيعِ بِلَا شُبْهَةٍ فِيهِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ لَيْسَ فِي الصَّنْعَةِ، وَنَحْنُ مَا قُلْنَا إنَّ مُجَرَّدَ ذِكْرِ عَدَدِ الذُّرْعَانِ مُصَحِّحٌ لَلسَّلَمِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْأَوْصَافِ حَتَّى يَنْضَبِطُ، كَمَا أَنَّ الْمَكِيلَ أَيْضًا لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ السَّلَمِ فِيهِ مُجَرَّدُ ذِكْرِ عَدَدِ الْكَيْلِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ الْأَوْصَافَ مَعَهُ، فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّقْرِيرَ فَإِنَّ فِي غَيْرِهِ خَبْطًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (وَكَذَا فِي الْمَعْدُودَاتِ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ كَالْجَوْزِ وَالْبِيضِ) أَيْ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا (لِأَنَّ الْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبُ مَضْبُوطٌ بِالْعَدَدِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمُ فَيَجُوز السَّلَمُ فِيهِ) عَدَدًا (وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِيهِ سَوَاءٌ لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى إهْدَارِ التَّفَاوُتِ) بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ حِينَئِذٍ يَسِيرُ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلِذَا لَا تُبَاعُ بَيْضَةُ دَجَاجَةٍ بِفَلْسٍ وَأُخْرَى بِفَلْسَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الضَّابِطُ فِي الْمَعْدُودِ الْمُتَقَارِبِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ الْمُصَنِّفُ: أَعْنِي أَنَّ مَا تَفَاوَتَتْ مَالِيَّتُهُ مُتَفَاوِتٌ كَالْبِطِّيخِ وَالْقَرْعِ وَالرُّمَّانِ وَالرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ وَالسَّفَرْجَلِ، فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عَدَدًا لِلتَّفَاوُتِ فِي الْمَالِيَّةِ إلَّا إذَا ذَكَرَ ضَابِطًا غَيْرَ مُجَرَّدِ الْعَدَدِ كَطُولٍ وَغِلَظٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَمِنْ الْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ الْجُوَالِقَاتِ وَالْفِرَاءِ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إلَّا بِذِكْرِ مُمَيَّزَاتٍ.
وَأَجَازُوهُ فِي الْبَاذِنْجَانِ وَالْكَاغَدِ عَدَدًا لِإِهْدَارِ التَّفَاوُتِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى كَاغَدٍ بِقَالِبٍ خَاصٍّ وَإِلَّا لَا يَجُوزُ، وَكَوْنُ الْبَاذِنْجَانَ مُهْدَرَ التَّفَاوُتِ لَعَلَّهُ فِي بَاذِنْجَانِ دِيَارِهِمْ وَفِي دِيَارِنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ بِيضِ النَّعَامِ وَجَوْزُ الْهِنْدِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْءٌ مِنْهُ بِالْإِسْلَامِ فِي بِيضِ الدَّجَاجِ وَالْجَوْزِ الشَّامِيّ وَالْفِرِنْجِ لِعَدَمِ إهْدَارِ التَّفَاوُتِ مِنْ جِنْسَيْنِ لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ.
وَيُشْتَرَطُ مَعَ الْعَدَدِ بَيَانُ الصِّفَةِ أَيْضًا، فَلَوْ أَسْلَمَ فِي بِيضِ النَّعَامِ أَوْ جَوْزِ الْهِنْدِ جَازَ كَمَا جَازَ فِي الْآخَرِينَ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَنَعَهُ فِي بِيضِ النَّعَامِ ادِّعَاءٌ لِتَفَاوُتِ آحَادِهِ فِي الْمَالِيَّةِ وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَالْوَجْهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْغَرَضِ فِي عُرْفِ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ فِي عُرْفِ مَنْ يَبِيعُ بِيضَ النَّعَامِ الْأَكْلُ لَيْسَ غَيْرُ كَعُرْفِ أَهْلِ الْبَوَادِي يَجِبُ أَنْ يَعْمَلَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَيَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ فِي ذَلِكَ الْعُرْفِ حُصُولُ الْقِشْرِ لِيَتَّخِذَ فِي سَلَاسِلَ الْقَنَادِيلِ كَمَا فِي دِيَارِ مِصْرَ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْصَارِ يَجِبُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ الْعَدَدِ إلَّا مَعَ تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ وَاللَّوْنِ مَعَ نَقَاءِ الْبَيَاضِ أَوْ إهْدَارِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَمَا يَجُوزُ عَدَدًا فِي الْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ يَجُوزُ كَيْلًا، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَكِيلٍ بَلْ مَعْدُودٍ، وَعَنْهُ لَا يَجُوزُ عَدَدًا أَيْضًا لِلتَّفَاوُتِ) بَيْنَ آحَادِهِ.
قُلْنَا: أَمَّا التَّفَاوُتُ فَقَدْ أَهْدَرَ فَلَا تَفَاوَتَ إذْ لَا تَفَاوَتَ فِي مَالِيَّتِهِ؛ وَأَمَّا كَوْنُهُ مَعْدُودًا فَمُسَلَّمٌ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ كَيْلُهُ مَعَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْمِقْدَارِ لَيْسَ إلَّا لِلضَّبْطِ وَالضَّبْطُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي الْعَدَدِ بَلْ يَتَعَرَّفُ بِطَرِيقٍ آخَرَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْكَيْلُ غَيْرُ مَعْدُومٍ فِيهِ لِمَا يَبْقَى بَيْنَ كُلِّ جَوْزَتَيْنِ وَبَيْضَتَيْنِ مِنْ التَّخَلْخُلِ: قُلْنَا: قَدْ عِلْمنَا بِهِ وَرَضِيَ رَبُّ السَّلَمِ فَإِنَّمَا وَقَعَ السَّلَمُ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَمْلَأُ هَذَا الْكَيْلَ مَعَ تَخَلْخُلِهِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ ذَلِكَ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا وَالْمَعْدُودُ لَيْسَ مِنْهَا، وَكِيلُهُ إنَّمَا كَانَ بِاصْطِلَاحِهِمَا فَلَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مَكِيلًا مُطْلَقًا لِيَكُونَ رِبَوِيًّا.
وَإِذَا أَجَزْنَاهُ كَيْلًا فَوَزْنًا أَوْلَى.
قولهُ: (وَكَذَا فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا) أَيْ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا، هَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ، فَكَانَ هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ.
وَقِيلَ بَلْ هَذَا قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
أَمَّا عِنْدَهُ فَلَا يَجُوزُ بِدَلِيلِ مَنْعِهِ بِبَيْعِ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ فِي بَابِ الرِّبَا لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ، وَهَذَا مَا أَرَادَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قولهِ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَإِذَا كَانَتْ أَثْمَانًا لَمْ يَجُزْ السَّلَمُ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَرَوَى عَنْهُ أَبُو اللَّيْثِ الْخُوَارِزْمِيَّ أَنَّ السَّلَمَ فِي الْفُلُوسِ لَا يَجُوزُ عَلَى وَفْقِ هَذَا التَّخْرِيجِ، لَكِنْ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ الْجَوَازُ.
وَالْفَرْقُ لَهُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالسَّلَمِ أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ السَّلَمِ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مُثَمَّنًا، فَإِذَا أَقْدَمَا عَلَى السَّلَمِ فَقَدْ تَضَمَّنَ إبْطَالُهُمَا اصْطِلَاحَهُمَا عَلَى الثَّمَنِيَّةَ، وَيَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَعَامَلُ فِيهَا بِهِ وَهُوَ الْعَدُّ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُهُ عَلَى الثَّمَنِ فَلَا مُوجِبَ لِخُرُوجِهَا فِيهِ عَنْ الثَّمَنِيَّةَ فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فَامْتَنَعَ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ الْفَرْقَ الْمَذْكُورَ جَوَابُ الْمُصَنِّفُ الْمَذْكُورِ عَلَى تَقْدِيرِ تَخْرِيجِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ.
وَقولنَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي إلَى آخِرِهِ هُوَ تَقْرِيرُ قول الْمُصَنِّفِ وَلَا يَعُودُ وَزْنِيًّا: يَعْنِي إذَا بَطَلَتْ ثَمَنِيَّتُهَا لَا يَلْزَمُ خُرُوجُهَا عَنْ الْعَدَدِيَّةِ إلَى الْوَزْنِيَّةِ، إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ الثَّمَنِيَّةِ عَدَمُ الْعَدَدِيَّةِ كَالْجَوْزِ وَالْبِيضِ بَلْ يَبْقَى عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تُعُورِفَ التَّعَامُلُ بِهِ فِيهَا وَهُوَ الْعَدَدُ إلَّا أَنْ يُهْدِرَهُ أَهْلُ الْعُرْفِ كَمَا هُوَ فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّ الْفُلُوسَ أَثْمَانٌ فِي زَمَانِنَا وَلَا تُقْبَلُ إلَّا وَزْنًا فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا إلَّا وَزْنًا فِي دِيَارِنَا فِي زَمَانِنَا وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَدَدِيَّةٌ فِي دِيَارِنَا أَيْضًا.

متن الهداية:
(وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوز لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالسِّنِّ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ، وَالتَّفَاوُتُ بَعْدَ ذَلِكَ يَسِيرٌ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ.
وَلَنَا أَنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ مَا ذَكَرَ يَبْقَى فِيهِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فِي الْمَالِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، بِخِلَافِ الثِّيَابِ لِأَنَّهُ مَصْنُوعُ الْعِبَادِ فَقَلَّمَا يَتَفَاوَتُ الثَّوْبَانِ إذَا نُسِجَا عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ.
وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ» وَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَجْنَاسِهِ حَتَّى الْعَصَافِيرُ.
قَالَ: (وَلَا فِي أَطْرَافِهِ كَالرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ) لِلتَّفَاوُتِ فِيهَا إذْ هُوَ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ لَا مُقَدَّرٌ لَهَا.
قَالَ: (وَلَا فِي الْجُلُودِ عَدَدًا وَلَا فِي الْحَطَبِ حُزَمًا وَلَا فِي الرَّطْبَةِ جُرُزًا) لِلتَّفَاوُتِ فِيهَا، إلَّا إذَا عُرِفَ ذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُ طُولَ مَا يَشُدُّ بِهِ الْحُزْمَةَ أَنَّهُ شِبْرٌ أَوْ ذِرَاعٌ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ) دَابَّةَ كَانَ أَوْ رَقِيقًا، وَهُوَ قول الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ (يَجُوزُ) لِلْمَعْنَى وَالنَّصِّ.
أَمَّا الْمَعْنَى (فَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا) أَيْ مُنْضَبِطًا (بِبَيَانِ الْجِنْسِ) كَفَرَسٍ أَوْ إبِلٍ أَوْ عَبْدٍ (وَالسِّنُّ) كَابْنِ مَخَاضٍ أَوْ عَشَّارٍ (وَالنَّوْعُ) كَعَرَبِيٍّ وَبَخْتِيٍّ وَحَبَشِيٍّ (وَالصِّفَةُ) كَأَحْمَرَ وَأَسْمَرَ وَطَوِيلٍ أَوْ رَبَعَةٍ (وَالتَّفَاوُتُ بَعْدَ ذَلِكَ يَسِيرٌ) وَهُوَ مُغْتَفَرٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ سَلَمٌ أَصْلًا، فَإِنَّ الْغَائِبَ لَوْ بَلَغَ فِي تَعْرِيفِهِ النِّهَايَةَ لَا بُدَّ مِنْ تَفَاوُتٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْئِيِّ، فَإِنَّ بَيْنَ جَيِّدٍ وَجَيِّدٍ مِنْ الْحِنْطَةِ تَفَاوُتًا لَا يَخْفَى وَإِنْ صَدَقَ اسْمُ الْجُودَةِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَذَا بَيْنَ ثَوْبِ دِيبَاجٍ أَحْمَرَ وَثَوْبُ دِيبَاجٍ أَحْمَرَ فَعُلِمَ أَنَّ التَّفَاوُتَ الْيَسِيرَ مُغْتَفَرٌ شَرْعًا فَصَارَ الْحَيَوَانُ كَالثِّيَابِ وَالْمَكِيلِ، وَأَمَّا النَّصُّ فَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا، فَنَفِدَتْ الْإِبِلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى قَلَائِصَ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ».
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي رَافِعٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بِكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إبِلٌ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ لِلرَّجُلِ بِكْرَهُ، فَرَجَعَ إلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إلَّا جَمَلًا خِيَارًا رَبَاعِيًا، فَقَالَ: أَعْطِهِ إيَّاهُ، إنَّ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحَيَوَانِ فِي الذِّمَّةِ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ يُوفِيهَا صَاحِبُهَا بِالرَّبْذَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ، وَاسْتَوْصَفَ بَنُو إسْرَائِيلَ الْبَقَرَةَ فَوَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ فَعَلِمُوهَا بِالْوَصْفِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَلَّا لَا يَصِفُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ بَيْنَ يَدَيْ امْرَأَتِهِ حَتَّى كَأَنَّهَا تَنْظُرُ إلَيْهِ وَلَا تَصِفُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ بَيْن يَدَيْ زَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا» فَقَدْ جَعَلَ الْمَوْصُوفَ كَالْمَرْئِيِّ.
وَقَدْ أَثْبَتَ الشَّرْعُ الْغُرَّةَ وَمِائَةً مِنْ الْإِبِلِ دِيَةٌ فِي الذِّمَّةِ وَأَثْبَتَ مَهْرًا فِي الذِّمَّةِ، وَصِحَّةُ الدَّعْوَى بِالْحَيَوَانِ الْمَوْصُوفِ وَالشَّهَادَةِ بِهِ مَعَ أَنَّ شَرْطَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ كَوْنُ الْمُدَعِّي وَالْمَشْهُودُ بِهِ مَعْلُومًا.
قُلْنَا: أَمَّا الْمَعْنَى فَيَمْنَعُ أَنَّ بَعْدَ الْوَصْفِ فِي الْحَيَوَانِ يَصِيرُ التَّفَاوُتُ يَسِيرًا بَلْ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا يَصِيرُ مَعَهُ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّ الْعَبْدَيْنِ وَالْمُتَسَاوِيَيْنِ سِنًّا وَلَوْنًا وَجِنْسًا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ فِي حُسْنِ الشِّيمَةِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَدَبِ وَفَهْمِ الْمَقَاصِدِ مَا يُصَيِّرُهُ بِأَضْعَافِ قِيمَةِ الْآخَرِ، وَكَذَا بَيْنَ الْفَرَسَيْنِ وَالْجَمَلَيْنِ (بِخِلَافِ الثِّيَابِ) فَإِنَّهَا مَصْنُوعَةُ الْعَبْدِ بِآلَةٍ خَاصَّةٍ، فَإِذَا اتَّحَدَتْ لَمْ تَتَفَاوَتْ إلَّا يَسِيرًا، وَكَذَا بَيْنَ الْجَيِّدِينَ مِنْ الْحِنْطَةِ مِثْلًا بِاتِّفَاقِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ ذَلِكَ وَلَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ تَعَالَى الْحَيَوَانَ كَذَلِكَ.
وَقول الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ (قَلَّمَا يَتَفَاوَتُ الثَّوَبَانُ إذَا نُسِجَا عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ) يُرِيدُ أَنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ قَلِيلًا لَا عَدَمَ التَّفَاوُتِ أَصْلًا كَمَا هُوَ اسْتِعْمَالُ قَلَّمَا فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ: أَعْنِي قَلَّ إذَا كَفَّ بِمَا اسْتَعْمَلَ لِلنَّفْيِ: كَقولهِ:
وَقَلَّمَا وِصَالٌ عَلَى طُولِ الصُّدُودِ يَدُومُ

وَحِينَ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ قِلَّةَ التَّفَاوُتِ وَجَبَ أَنْ تَجْعَلَ مَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْمَعْنَى قَلَّ التَّفَاوُتُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي قول غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الشَّارِحِينَ إذَا اتَّحَدَ الصَّانِعُ وَالْآلَةُ اتَّحَدَا الْمَصْنُوعُ مِنْ التَّسَاهُلِ.
وَأَمَّا النَّصُّ الْمَذْكُورُ فَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ مُضْطَرِبُ الْإِسْنَادِ، فَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ هَكَذَا، وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ فَأَسْقَطَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ وَقَدَّمَ أَبَا سُفْيَانَ عَلَى مُسْلِمِ بْنِ جُبَيْرٍ.
ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَرَوَاهُ عَفَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي حَبِيبٍ: عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ حَرِيشٍ.
وَرَوَاهُ عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ حَرِيشٍ.
وَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، فَأَسْقَطَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ وَقَدَّمَ أَبَا سُفْيَانَ كَمَا فَعَلَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي مُسْلِمِ بْنِ جُبَيْرٍ مُسْلِمِ بْنِ كَثِيرٍ، وَمَعَ هَذَا الِاضْطِرَابِ فَعَمْرُو بْنُ حُرَيْشٍ مَجْهُولُ الْحَالِ وَمُسْلِمُ بْنُ جُبَيْرٍ لَمْ أَجِدْ لَهُ ذِكْرًا وَلَا أَعْلَمْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْإِسْنَادِ، وَأَبُو سُفْيَانَ فِيهِ نَظَرٌ انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَلَا حُجَّةَ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً».
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ بِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَزَّارُ قَالَ الْبَزَّارُ: لَيْسَ فِي الْبَابِ أَجَلٌ إسْنَادًا مِنْ هَذَا.
وَقول الْبَيْهَقِيّ إنَّهُ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلٌ بِسَبَبِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ عَنْ مَعْمَرٍ كَذَلِكَ كَأَنَّهُ هُوَ مَبْنَى قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً غَيْرُ ثَابِتٍ، لَكِنْ هَذَا غَيْرُ مَقْبُولٍ بَعْدَ تَصْرِيحِ الثِّقَاتِ بِابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ دَاوُد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ عَنْ مَعْمَرٍ بِهِ مُسْنَدًا، وَغَايَةُ مَا فِيهِ تَعَارُضُ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ مِنْ الثِّقَاتِ وَالْحُكْمُ فِيهِ لِلْوَصْلِ كَمَا عُرِفَ، وَقَدْ تَأَيَّدَ بَعْدَ تَصْحِيحِهِ بِأَحَادِيثَ مِنْ طُرُقٍ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سُمْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً» وَقول الْبَيْهَقِيّ: أَكْثَرُ الْحُفَّاظِ لَا يُثْبِتُونَ سَمَاعَ الْحَسَنِ مِنْ سُمْرَةَ مُعَارَضٌ بِتَصْحِيحِ التِّرْمِذِيِّ لَهُ، فَإِنَّهُ فَرَّعَ الْقول بِسَمَاعِهِ مِنْهُ مَعَ أَنَّ الْإِرْسَالَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ لَا يَقْدَحُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ شَاهِدًا مُقَوِّيًا فَلَا يَضُرُّهُ الْإِرْسَالُ.
وَأَيْضًا اُعْتُضِدَ بِالْوُصُولِ السَّابِقِ أَوْ الْمُرْسَلِ الَّذِي يَرْوِيهِ مَنْ لَيْسَ يَرْوِي عَنْ رِجَالِ الْآخَرِ، وَحَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْحَيَوَانُ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ لَا يَصْلُحُ نَسَاءٌ، وَلَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ كَأَنَّهُ لِلْخِلَافِ فِي الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ.
وَحَدِيثٌ آخَرَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ سَوَاءٌ، وَقول الْبُخَارِيِّ مُرْسَلٌ وَجَوَابُهُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا وَتَضْعِيفُ ابْنِ مَعِينٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ دِينَارٍ لَا يَضُرُّ لِذَلِكَ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ أَبِي خَبَّابٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَبِيعُ الْفَرَسَ بِالْأَفْرَاسِ وَالنَّجِيبَةَ بِالْإِبِلِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» وَحَمَلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى كَوْنِ النَّهْيِ فِيمَا إذَا كَانَ النَّسَاءُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ حَتَّى يَكُونَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ تَقْيِيدًا لِلْأَعَمِّ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ بِلَا مُوجِبٍ.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ» هُوَ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ جَوْنِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ الذِّمَارِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَة عَنْ ابْن عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ السَّلَفِ فِي الْحَيَوَانِ» وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
وَتَضْعِيفُ ابْنِ مَعِينٍ بْن جَوْنِي فِيهِ نَظَرٌ بَعْد تَعَدُّدِ مَا ذَكَرَ مِنْ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ وَالْحِسَانِ مِمَّا هُوَ بِمَعْنَاهُ يَرْفَعُهُ إلَى الْحُجِّيَّةِ بِمَعْنَاهُ لِمَا عُرِفَ فِي فَنِّ الْحَدِيثِ، وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يُرَجَّحَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ إنْ صَحَّ لِأَنَّهُ أَقْوَى سَنَدًا: أَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ حِبَّانَ، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ يُرَجَّحُ عَلَى الْمُبِيحِ.
وَفِي الْبَابِ أَثَرُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: دَفَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى زَيْدِ بْنِ خُوَيْلِدَةَ الْبِكْرِيِّ مَالًا مُضَارَبَةَ، فَأَسْلَمَ زَيْدٌ إلَى عِتْرِيسِ بْنِ عُرْقُوبِ الشَّيْبَانِيِّ فِي قَلَائِصَ، فَلَمَّا حَلَّتْ أَخَذَ بَعْضًا وَبَقِيَ بَعْضُ، فَأُعْسِرَ عِتْرِيسُ وَبَلَغَهُ أَنَّ الْمَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ فَأَتَاهُ يَسْتَرْفِقُهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَفَعَلَ زَيْدٌ؟ فَقَالَ نَعَمْ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: اُرْدُدْ مَا أَخَذْتَ وَخُذْ رَأْسَ مَالِكَ وَلَا تُسَلِّمْنَ مَا لَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ.
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: فِيهِ انْقِطَاعٌ يُرِيدُ بَيْنَ إبْرَاهِيمَ وَعَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُرْوَى عَنْهُ بِوَاسِطَةِ عَلْقَمَةَ أَوْ الْأَسْوَدِ، إلَّا أَنَّ هَذَا غَيْرُ قَادِحٍ عِنْدَنَا خُصُوصًا مِنْ إرْسَالِ إبْرَاهِيمَ، فَقَدْ تَعَارَضَتْ الْأَحَادِيثُ وَالطُّرُقُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسُمْرَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَطْلُوبِ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ مَعْرِفَةِ الْبَقَرَةِ بِالْوَصْفِ فَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ لَهُمْ أَوْصَافًا ظَاهِرَةً لِيُطَبِّقُوهَا عَلَى مَعِينٍ مَوْجُودٍ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذَا مِمَّا تَحْصُلُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ وَكَلَامُنَا فِي أَنَّهُ يَنْتَفِي مَعَهُ التَّفَاوُتُ الْفَاحِشُ مُطْلَقًا مَعْنَاهُ.
وَأَمَّا مَنْعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصْفُ الرَّجُلِ الْحَدِيثِ فَلِلُحُوقِ الْفِتْنَةِ عَلَى السَّامِعِ وَهِيَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى انْتِفَاءِ التَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالشَّخْصِ.
وَأَمَّا ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ فِي الْمَهْرِ وَالدِّيَةِ وَنَحْوِهِمَا فَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ فِيهِ لَيْسَ مُقَابَلًا بِمَالٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ فَتَجْرِي فِيهِ الْمُسَاهَلَةُ، بِخِلَافِ مَا قُوبِلَ بِمَالٍ فَإِنَّهُ تَجْرِي فِيهِ الْمُشَاحَحَةُ فَجْرَيْنَا عَلَى مُوجِبِ ذَلِكَ وَقُلْنَا: مَا وَقَعَ مِنْ الْحَيَوَانِ بَدَلَ مَالٍ كَالْمَبِيعِ مِنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ لَمَا يَجْرِي فِيهِ الْمُشَاحَحَةُ عَادَةً، بِخِلَافِ غَيْرِهِ كَالْمَهْرِ وَمَا مَعَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِوَضًا عَنْ مَالٍ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْآخَرِ فَيَجُوزُ فَعَمَلنَا بِالْآثَارِ فِيهِمَا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقول: كَوْنُ التَّفَاوُتِ بَعْدَ الْأَوْصَافِ يَبْقَى فَاحِشًا لَا يَضُرُّ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْبَاطِنِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ سِوَى مَا تَضَمَّنَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ، فَإِذَا انْطَبَقَ الْمَذْكُورُ مِنْهَا عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِقَبُولِهِ سَوَاءٌ كَانَ التَّفَاوُتُ قَلِيلًا بِحَسَبِ الْبَاطِنِ أَوْ كَثِيرًا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا الْمَوْصُوفُ فَقَطْ.
نَعَمْ لَوْ عَيَّنَ مِنْ الْأَوْصَافِ الذَّكَاءَ وَجُودَةَ الْفَهْمِ وَالْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ يَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بَعْدَ زَمَانِ الِاخْتِبَارِ، وَبَعْدَهُ تَجْرِي الْمُنَازَعَةُ فِي أَنَّ أَخْلَاقَهُ مَا هِيَ وَفِي تَحْرِيرِهَا.
فَالْمُفْزِعُ فِي إبْطَالِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ لَيْسَ إلَّا السُّنَّةُ، وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَمَّا سَأَلَهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَ: قُلْتَ لَهُ: إنَّمَا لَا يَجُوزُ فِي الْحَيَوَانِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بِالْوَصْفِ، قَالَ: لَا، لِأَنَّا نُجَوِّزُ السَّلَمَ فِي الدَّيَابِيجِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَصَافِيرِ، وَلَعَلَّ ضَبْطُ الْعَصَافِيرِ بِالْوَصْفِ أَهْوَنُ مِنْ ضَبْطِ الدَّيَابِيجِ وَلَكِنَّهُ بِالسَّنَةِ.
وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: وَالْعَصَافِيرُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ لَكِنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُنْقَطِعِ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقْتَنَى وَلَا يُحْبَسُ لِلتَّوَالُدِ وَلَا يَتَيَسَّرُ أَخْذُهُ وَلَا رُجْحَانُ أَخْذِهِ يُقَامُ مَقَامَ الْمَوْجُودِ، بِخِلَافِ السَّمَكِ الطَّرِيِّ لِرُجْحَانِ إمْكَانِ أَخْذِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازُ السَّلَمِ فِيمَا يُقْتَنَى مِنْهَا كَالْحَمَامِ وَالْقُمْرِيِّ وَهُوَ خِلَافُ الْمَنْصُوصِ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ كَالْعَصَافِيرِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا وَفِي لُحُومِهَا، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى الدَّلِيلِ، لِأَنَّا إنْ عَلَّلْنَاهُ بِعَدَمِ الضَّبْطِ فَالْعِبْرَةُ لِعَيْنِ النَّصِّ لَا لِمَعْنَى النَّصِّ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا عُمُومَهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ قِيلَ.
فَالسَّمَكُ الطَّرِيُّ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ الْحَيَوَانِ فَجَازَ فِي الْعَصَافِيرِ قِيَاسًا عَلَى الثِّيَابِ بِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ.
قُلْنَا: إنَّمَا يَتِمُّ لَوْ شَرَطَ حَيَاةَ السَّمَكِ الطَّرِيِّ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ كَيْفَمَا كَانَ حَتَّى لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ كَانَ لَنَا أَنْ نَمْنَعَ صِحَّةَ السَّلَمِ فِيهِ.
قولهُ: (وَلَا فِي أَطْرَافِهِ) أَيْ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ (كَالرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ) وَهُوَ جَمْعُ كَرَاعٍ وَهُوَ مَا دُونَ الرُّكْبَةِ فِي الدَّوَابِّ.
قِيلَ الْمَانِعُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَنْعِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ وَهَذِهِ أَبْعَاضُهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا الْحَيَوَانُ إنْ كَانَ النَّهْيُ تَعَبُّدًا، وَلَا الْمَعْنَى إنْ كَانَ مَعْلُولًا بِالتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، وَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجُوزُ فِي الْجُلُودِ لَكِنَّهُ جَائِزٌ بِذِكْرِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالنَّوْعِ وَالْجُودَةِ، وَلِذَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجُلُودِ وَزْنًا.
وَالْمُصَنِّفُ إنَّمَا ذَكَرَ فِي مَنْعِهِ أَنَّهَا عَدَدِيَّةٌ مُتَفَاوِتَةٌ وَلَا مُقَدَّرٌ لَهَا فَامْتَنَعَ السَّلَمُ عَدَدًا وَغَيْرُ عَدَدٍ لِانْتِفَاءِ الْمَقْدُورِ.
وَعِنْدِي لَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ وَزْنًا بَعْدَ ذِكْرِ النَّوْعِ، وَبَاقِي الشُّرُوطِ، فَإِنَّ الْأَكَارِعَ وَالرُّءُوسَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ حِينَئِذٍ لَا تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، وَقول مَالِكٍ بِجَوَازِهِ عَدَدًا بَعْدَ ذِكْرِ النَّوْعِ لِخِفَّةِ التَّفَاوُتِ جَيِّدٌ لَكِنْ يُرَادُ أَنَّهَا رُءُوسُ عَجَاجِيلٍ أَوْ أَبْقَارٍ كِبَارٍ وَنَحْوِهِ فِي الْغَنَمِ، فَإِنَّ التَّفَاوُتَ بَعْدَ ذَلِكَ يَسِيرٌ (لَا فِي الْجُلُودِ عَدَدًا) وَكَذَا الْأَخْشَابُ وَالْجُوَالِقَاتُ وَالْفِرَاءُ وَالثِّيَابُ الْمَخِيطَةُ وَالْخِفَافُ وَالْقَلَانِسُ، إلَّا أَنْ يَذْكُرَ الْعَدَدَ لِقَصْدِ التَّعَدُّدِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ ضَبْطًا لِكَمِّيَّتِهِ ثُمَّ يَذْكُرُ مَا يَقَعُ بِهِ الضَّبْطَ كَأَنْ يَذْكُرَ فِي الْجُلُودِ مِقْدَارًا مِنْ الطُّولِ وَالْعَرْضِ بَعْدَ النَّوْعِ كَجُلُودِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَكَذَا فِي الْأَدِيمِ بِأَنْ يَقول طَائِفِيٍّ أَوْ بَرْغَالِيٍّ، وَفِي الْخَشَبِ طُولُهُ وَغِلَظُهُ وَنَوْعُهُ كَسَنْطٍ أَوْ حَوْرٍ وَنَحْوِهِ.
وَقول بَعْضِهِمْ يَجُوزُ فِي الْكَاغَدِ عَدَدًا مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدِ تَسْمِيَةِ طُولِهِ وَعِرْضِهِ وَثُخْنِهِ وَرِقَّتِهِ وَنَوْعِهِ، إلَّا أَنْ يُغْنِيَ ذِكْرُ نِسْبَتِهِ عَنْ قَدْرِهِ كَوَرَقٍ حَمَوِيّ، وَفِي الْجَوَالِيقِ طُولُهُ وَوُسْعُهُ، وَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ مُمَيِّزًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ قَاطِعًا لِلِاشْتِرَاكِ (وَ) كَذَا (لَا) يَجُوزُ (فِي الْحَطَبِ حُزَمًا وَلَا فِي الرَّطْبَةِ جُرُزًا لِلتَّفَاوُتِ إلَّا إذَا عَرَفَ ذَلِكَ) بِأَنْ يُبَيِّنَ طُولَ مَا يَشُدُّ بِهِ الْحُزْمَةَ أَنَّهُ شِبْرٌ أَوْ ذِرَاعٌ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ إذَا كَانَ لَا يَتَفَاوَتُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنْ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا أَصْلًا بَلْ لَا يَجُوزُ بِهَذَا الْعَقْدِ، وَلَوْ قَدَّرَ بِالْوَزْنِ فِي الْكُلِّ جَازَ.
وَفِي دِيَارِنَا تَعَارَفُوا فِي نَوْعٍ مِنْ الْحَطَبِ الْوَزْنَ فَيَجُوزُ الْإِسْلَامُ فِيهِ وَزْنًا وَهُوَ أَضْبَطُ وَأَطْيَبُ، وَكَوْنُ الْعُرْفِ فِي شَيْءٍ مِنْ بَعْضِ الْمُقَدَّرَاتِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَتَعَامَلَ فِيهِ بِمِقْدَارٍ آخَرَ يَصْطَلِحَانِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ كَمَا قُلْنَا فِي الْبَيْضِ كَيْلًا، وَعَنْهُ كَانَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْحِنْطَةِ وَزْنًا، بِخِلَافِ مَا إذَا قُوبِلَ نَحْوَ الْحِنْطَةِ بِجِنْسِهَا وَزْنًا وَهُوَ كَيْلِيٌّ لِمَا عُرِفَ فِي بَابِ الرِّبَا، أَمَّا السَّلَمُ فَلَيْسَ يَلْزَمُ فِيهِ ذَلِكَ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ فِي الْحِنْطَةِ لَا يَكُونُ حِنْطَةٌ وَقَدْ رَضِيَا بِضَبْطِهِ وَزْنًا كَيْ لَا يَصِيرَ تَفَاوُتُ الْحِنْطَتَيْنِ الْمُتَّحِدَتِي الْوَزْنِ كَيْلًا، وَبِهَذَا تَضْعُفُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْحِنْطَةِ وَزْنًا.
وَذَكَر قَاضِي خَانْ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى الْجَوَازِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْقَتِّ وَزْنًا وَالرَّطْبَةِ الْقَضْبَ، والْجُرَزِ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ جُرْزَةٌ: وَهِيَ الْحُزْمَةُ مِنْ الرَّطْبَةِ كَحُزْمَةِ الرِّيحَانِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا الْجِزَز بِكَسْرِ الْجِيمِ وِزَاءَيْنِ أَوَّلُهُمَا مَفْتُوحَةٌ فَجَمْعُ جِزَّةٌ وَهِيَ الصُّوفُ الْمَجْزُوزُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الْمَحِلِّ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُنْقَطِعًا عِنْدَ الْعَقْدِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحِلِّ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ أَوْ مُنْقَطِعًا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ إذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَحِلِّ لِوُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِهِ.
وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا تُسَلِّفُوا فِي الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ بِالتَّحْصِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّحْصِيلِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الْمَحِلِّ) بِكَسْرِ الْحَاءِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ الْحُلُولِ (حَتَّى لَوْ كَانَ مُنْقَطِعًا عِنْدَ الْعَقْدِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحِلِّ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ أَوْ مُنْقَطِعًا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ) وَهُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْمَحِلُّ (لَا يَجُوزُ) وَهُوَ قول الْأَوْزَاعِيِّ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ (إذَا كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحِلِّ جَازَ) وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْوُجُودِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَهُوَ بِالْوُجُودِ وَقْتُ الْمَحِلِّ فَاشْتِرَاطُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ بِلَا مُوجِبٍ، بَلْ دَلِيلُ نَفْيِهِ عَدَمُ دَلِيلِ وُجُودِهِ لِأَنَّ نَفْيَ الْمُدْرَكِ الشَّرْعِيِّ يَكْفِي لِنَفْيِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.
وَلَهُمْ أَيْضًا إطْلَاقُ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ أَعْنِي «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثَّمَرِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ» فَأَفَاضَ فِي بَيَان الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى قوله: «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فَلَوْ كَانَ عَدَمُ الِانْقِطَاعِ شَرْطًا لَبَيَّنَهُ، وَحِينَ لَمْ يُبَيِّنْهُ لَمْ يَثْبُتْ بَلْ لَزِمَ أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا بِسُكُوتِهِ عَنْهُ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي بَيَانِ مَا هُوَ شَرْطٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مِثْلِهِ.
قُلْنَا: بَلْ فِيهِ مُدْرَكُ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَهْ، وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ نَجْرَانِيٍّ: «قُلْتُ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أُسْلِمُ فِي نَخْلٍ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ؟ قَالَ لَا، قُلْت لِمَ؟ قَالَ لِأَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ فِي حَدِيقَةِ نَخْلٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ النَّخْلُ فَلَمْ تُطْلِعْ النَّخْلُ شَيْئًا ذَلِكَ الْعَامُ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: أُؤَخِّرَكَ حَتَّى تَطْلُعَ، فَقَالَ الْبَائِعُ: إنَّمَا النَّخْلُ هَذِهِ السَّنَةُ، فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِلْبَائِعِ: أَخَذَ مِنْ نَخْلِك شَيْئًا؟ قَالَ لَا، قَالَ: بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَهُ، اُرْدُدْ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ وَلَا تُسْلِمُوا فِي نَخْلٍ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ» وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ أَوَّلًا يَصْدُقُ عَلَى السَّلَمِ إذَا وَقَعَ قَبْلَ الصَّلَاحِ أَنَّهُ بَيْعُ ثَمَرَةٍ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَفِيهِ مَجْهُولٌ كَمَا رَأَيْتَ، وَالْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» فَيَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِلنَّهْيِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ، وَعَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ نَسَاءً بِنَاجِزٍ» وَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ فَقَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُؤْكَلَ مِنْهُ» فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ هَذَيْنِ الصَّحَابِيَّيْنِ الْكَبِيرِينَ فِي الْعِلْمِ وَالتَّتَبُّعِ أَنَّهُمَا فَهِمَا مِنْ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ بَيْعَ السَّلَمِ، فَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى اشْتِرَاطِ وُجُودِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى اشْتِرَاطِهِ عِنْدَ الْمَحِلِّ فَلَزِمَ اشْتِرَاطُ وُجُودِهِ عِنْدَهُمَا عَلَى خِلَافِ قولهِمْ.
وَأَمَّا لُزُومُ وُجُودِهِ بَيْنَهُمَا فَإِمَّا لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ لِأَنَّ الثَّابِتَ قَائِلَانِ: قَائِلٌ بِاشْتِرَاطِهِ عِنْد الْمَحِلِّ فَقَطْ، وَقَائِلٌ عِنْدَهُمَا وَفِيمَا بَيْنَهُمَا، فَالْقول بِاشْتِرَاطِهِ عِنْدَهُمَا لَا غَيْرُ إحْدَاثُ قول ثَالِثٍ، وَنَقول ذَلِكَ بِتَعْلِيلِ النَّصِّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ مَعَ أَنَّ الْأَدَاءَ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ فَلَا يَضْطَرُّ إلَيْهِ عِنْدَهُ بِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُ الْوُجُودِ وَبِالِاسْتِمْرَارِ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّحْصِيلِ، فَإِنْ أَخْذَ السَّلَمِ مَظِنَّةُ الْعَدَمِ وَبِالْأَخْذِ بِذَلِكَ مَظِنَّةُ التَّحْصِيلِ شَيْئًا فَشَيْئًا فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ وَبِاعْتِبَارِ الظِّنَّةِ تُنَاطُ الْأَحْكَامُ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى كَوْنِ بَعْضِ مَنْ يُسْلِمَ إلَيْهِ قَدْ يُحَصِّلُهُ دَفْعَةً عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ كَالذَّرَاعِ وَأَهْلُ النَّخْلِ، فَإِنَّ مَا يُسْلَمُ فِيهِ لَا يُحْصَى وَأَكْثَرُهُمْ يُحَصِّلُ الْمُسْلَمَ فِيهِ بِدَفَعَاتٍ، أَرَأَيْتَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ فِي الْجُلُودِ أَيَذْبَحُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ أَلْفَ رَأْسٍ لِيُعْطِيَ جُلُودَهَا لِرَبِّ السَّلَمِ، وَكَذَا الْأَسْمَاكُ الْمَالِحَةُ وَالثِّيَابُ وَالْأَخْشَابُ وَالْأَحْطَابُ وَالْأَعْسَالُ.
وَالْمُشَاهَدُ فِي بَعْضٍ مَنْ لَهُ نَخْلٌ أَوْ زَيْتُونٌ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَحَصَّلُ لَهُ لِيُعْطِيَ مَا يَخْرُجُ لَهُ وَيَشْتَرِي الْبَاقِيَ، وَكَثِيرٌ يَأْخُذُونَ لِيَسْتَرِيحُوا فِي رَأْسِ الْمَالِ وَيُنْفِقُوا مِنْ فَضْلِ الْكَسْبِ عَلَى عِيَالِهِمْ وَيُحَصِّلُوا الْمُسْلَمَ فِيهِ قَلِيلًا قَلِيلًا، لِأَنَّ وَضْعَ الْمُسْلِمِ شَرْعًا لِاعْتِبَارِ ظَنِّ مَا ذَكَرْنَا فَيَكُونُ هُوَ السَّبَبُ فِي اشْتِرَاطِ الشَّرْعِ وُجُودَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ الِانْقِطَاعُ الَّذِي يُفْسِدُ الْعَقْدَانِ لَا يُوجَدُ فِي السُّوقِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي الْبُيُوتِ.
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرِ الثَّلْجِيُّ وَتَوَارَدُوا عَلَيْهِ.
وَفِي مَبْسُوطِ أَبِي اللَّيْثِ: لَوْ انْقَطَعَ فِي إقْلِيمٍ دُونَ إقْلِيمِ لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْإِقْلِيمِ الَّذِي لَا يُوجَدُ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ فَيَعْجَزُ عَنْ التَّسْلِيمِ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ فِي الرُّطَبِ بِبُخَارَى لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ بِسِجِسْتَانَ.

متن الهداية:
(وَلَوْ انْقَطَعَ بَعْدَ الْمَحِلِّ فَرَبُّ السَّلَمِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ فَسَخَ السَّلَمَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وُجُودَهُ) لِأَنَّ السَّلَمَ قَدْ صَحَّ وَالْعَجْزُ الطَّارِئُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَصَارَ كَإِبَاقِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ انْقَطَعَ بَعْدَ الْمَحِلِّ) أَيْ حُلُولُ الْأَجَلِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ (لَكِنْ رَبُّ السَّلَمِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ فَسَخَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وُجُودَهُ) وَقَالَ زُفَرُ: يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْكَرْخِيِّ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ كَمَا لَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ لَا يَبْقَى عِنْدَ فَوَاتِهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ ثُمَّ كَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فَكَذَا هُنَا.
وَلَنَا (أَنَّ السَّلَمَ قَدْ صَحَّ) ثُمَّ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِعَارِضٍ (عَنْ شَرَكِ الزَّوَالِ) فَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي (كَمَا لَوْ أَبِقَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ) وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَا دَيْنٌ وَمَحِلُّ الدَّيْنِ الذِّمَّةُ وَهِيَ بَاقِيَةٌ فَيَبْقَى الدَّيْنُ بِبَقَاءِ مَحِلِّهِ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ التَّسْلِيمُ إذَا كَانَ وُجُودُهُ مَرْجُوًّا، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ الْعَيْنِ فَإِنَّ بِهَلَاكِهِ يَفُوتُ مَحِلُّ الْعَقْدِ، وَكَذَا الْفُلُوسُ إذَا كَسَدَتْ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ لَكِنْ الثَّمَنُ الْكَائِنُ فِيهَا فُلُوسٌ هِيَ أَثْمَانٌ وَلَا وُجُودَ لَهَا بَعْدَ الْكَسَادِ فَيَفُوتُ الْمَحِلُّ، ثُمَّ هُوَ لَيْسَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بَلْ الظَّاهِرُ اسْتِمْرَارُهُ فِي الْوُجُودِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ لِإِدْرَاكِ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ أَوَانًا مَعْلُومًا، وَكَذَا لِغَيْرِهَا أَوَانٌ يَكْثُرُ وُجُودُهَا فِيهِ مِنْ السَّنَةِ بِرُخَصٍ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحِ وَزْنًا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْقَدْرِ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ إذْ هُوَ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ عَدَدًا) لِلتَّفَاوُتِ.
قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي السَّمَكِ الطَّرِيِّ إلَّا فِي حِينِهِ وَزْنًا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَنْقَطِعُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ وَزْنًا لَا عَدَدًا لِمَا ذَكَرْنَا.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي لَحْمِ الْكِبَارِ مِنْهَا وَهِيَ الَّتِي تُقَطَّعُ اعْتِبَارًا بِالسَّلَمِ فِي اللَّحْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحِ وَزْنًا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مَعْلُومًا) بِأَنْ يَقول بُورِيٌّ أَوْ رَايٌ، وَفِي أَسْمَاكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة الشَّفْشُ وَالدُّونِيسُ وَغَيْرُهَا (لِأَنَّهُ) حِينَئِذٍ (مَعْلُومُ الْقَدْرِ مَضْبُوطُ الصِّفَةِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ، وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ عَدَدًا لِلتَّفَاوُتِ) فِي التُّحْفَةِ: وَأَمَّا الصِّغَارُ فَيَجُوزُ فِيهِ كَيْلًا وَوَزْنًا سَوَاءٌ فِيهِ الطَّرِيُّ وَالْمَالِحُ.
وَفِي الْمُغْرِبِ: سَمَكٌ مَلِيحٌ وَمَمْلُوحٌ وَهُوَ الْمُقَدِّدُ الَّذِي فِيهِ الْمِلْحُ، وَلَا يُقَالُ مَالِحٌ إلَّا فِي لُغَةٍ رَدِيئَةٍ.
قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: لَكِنْ قَالَ الشَّاعِرُ:
بَصَرِيَّةٌ تَزَوَّجَتْ بَصْرِيًّا ** أَطْعَمَهَا الْمَالِحَ وَالطَّرِيَّا

ثُمَّ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَكَفَى بِذَلِكَ حُجَّةٌ لِلْفُقَهَاءِ، وَظَاهِرُ هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَدِيءٍ وَلَمْ يَجِدْ سِوَى هَذَا الْبَيْتِ وَهُوَ لَا يُنَافِي قول الْمَغْرِبِ إلَّا فِي لُغَةٍ رَدِيئَةٍ، وَلَيْسَ لِهَذَا الِاسْتِدْرَاكِ فَائِدَةٌ، بَلْ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ مِلْحٌ وَمَلِيحٌ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى قول الرَّاجِزِ:
أَطْعَمَهَا الْمَالِحَ وَالطَّرِيَّا

ذَاكَ مُوَلَّدٌ لَا يُؤْخَذُ بِلُغَتِهِ.
وَأَمَّا الطَّرِيُّ فَيَجُوزُ حِينَ وُجُودِهِ وَزْنًا أَيْضًا، فَإِذَا كَانَ يَنْقَطِعُ فِي بَعْضِ السَّنَةِ كَمَا قِيلَ إنَّهُ يَنْقَطِعُ فِي الشِّتَاءِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَلَا يَنْعَقِدُ فِي الشِّتَاءِ.
وَلَوْ أَسْلَمَ فِي الصَّيْفِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُنْتَهَى الْأَجَلِ لَا يَبْلُغُ الشِّتَاءَ، وَهَذَا مَعْنَى قول مُحَمَّدٍ: لَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي السَّمَكِ الطَّرِيِّ إلَّا فِي حِينِهِ: يَعْنِي أَنْ يَكُونَ السَّلَمُ مَعَ شُرُوطِهِ فِي حِينِهِ كَيْ لَا يَنْقَطِعُ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْحُلُولِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَنْقَطِعُ جَازَ مُطْلَقًا وَزْنًا لَا عَدَدًا لَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفَاوُتِ فِي آحَادِهِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْكِبَارِ الَّتِي تُقَطَّعُ كَمَا يُقَطَّعُ اللَّحْمُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي لَحْمِهَا اعْتِبَارًا بِالسَّلَمِ فِي اللَّحْمِ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مَنْعُ السَّلَمِ فِي الْكِبَارِ وَزْنًا مَعَ إجَازَتِهِ فِي اللَّحْمِ فَإِنَّ هُنَاكَ يُمْكِنُ إعْلَامُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ الْجَنْبِ أَوْ الظَّهْرِ أَوْ الْفَخِذِ وَلَا يَتَأَتَّى فِي السَّمَكِ ذَلِكَ.
وَطَعَنَ بَعْضُهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي قولهِ فِي حِينِهِ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ حِينٍ مَدْفُوعِ، فَإِنَّ الِانْقِطَاعَ عَدَمُ الْوُجُودِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَفِي بَعْضِ السَّنَةِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمُ الِاصْطِيَادِ لِيَرُدَّ مَا ذَكَرَهُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَا: إذَا وَصَفَ مِنْ اللَّحْمِ مَوْضِعًا مَعْلُومًا بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ) لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ بِالْمِثْلِ.
وَيَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ وَزْنًا وَيَجْرِي فِيهِ رِبَا الْفَضْلِ، بِخِلَافِ لَحْمِ الطُّيُورِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وَصْفُ مَوْضِعٍ مِنْهُ.
وَلَهُ أَنَّهُ مَجْهُولٌ لِلتَّفَاوُتِ فِي قِلَّةِ الْعَظْمِ وَكَثْرَتِهِ أَوْ فِي سِمَنِهِ وَهُزَالِهِ عَلَى اخْتِلَافِ فُصُولِ السَّنَةِ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ.
وَفِي مَخْلُوعِ الْعَظْمِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَالتَّضْمِينُ بِالْمِثْلِ مَمْنُوعٌ.
وَكَذَا الِاسْتِقْرَاضُ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ فَالْمِثْلُ أَعْدَلُ مِنْ الْقِيمَةِ، وَلِأَنَّ الْقَبْضَ يُعَايَنُ فَيُعْرَفُ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ بِهِ فِي وَقْتِهِ، أَمَّا الْوَصْفُ فَلَا يُكْتَفَى بِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ) وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَأْكِيدٌ فِي نَفْيِ الْجَوَازِ كَقولهِ لَا خَيْرَ فِي اسْتِقْرَاضِ الْخُبْزِ، وَقول مَنْ قَالَ إنَّ الْمُجْتَهِدَ يَقولهُ فِيمَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ تَحَرُّزًا عَنْ الْقَطْعِ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّأْيِ بَعِيدٌ.
فَكُلُّ الْأَحْكَامِ الْقِيَاسِيَّةِ الْمَظْنُونَةِ مُعَبَّرٌ عَنْهَا فِي الْفِقْهِ بِلَا يَجُوزُ كَذَا أَوْ يَجُوزُ كَذَا.
وَكُلُّهَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا مَظْنُونَاتٌ لَا مَقْطُوعَاتٌ، وَأَيْضًا الْمُجْتَهِدُ قَاطِعٌ بِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ (وَقَالَا: إذَا وَصَفَ مِنْ اللَّحْمِ مَوْضِعًا مَعْلُومًا بِصِفَةٍ) كَكَوْنِهِ ذَكَرًا وَخَصِيًّا وَسَمِينًا بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ جِنْسَهُ مِنْ نَحْوِ الضَّأْنِ وَسِنَّهُ ثَنِيٌّ وَمِنْ الْفَخِذِ الْكَتِفِ أَوْ الْجَنْبِ مِائَةُ رِطْلٍ.
وَفِي الْحَقَائِقِ وَالْعُيُونِ الْفَتْوَى عَلَى قولهِمَا، وَهَذَا عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ ثُبُوتِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ.
وَقَدْ قِيلَ لَا خِلَافَ، فَمَنَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا أَطْلَقَا السَّلَمَ فِي اللَّحْمِ وَقولهُمَا إذَا بَيَّنَّا مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مَوْزُونٌ فِي عَادَةِ النَّاسِ مَضْبُوطٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَصْفِ.
وَقولهُ وَلِهَذَا يَضْمَنُ بِالْمِثْلِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى كَوْنِهِ مَوْزُونًا وَكَذَا كَوْنُهُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ جَائِزُ الِاسْتِقْرَاضِ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِيهِ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ قَاطِعٌ فِيهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْعَظْمِ غَيْرُ مَانِعٍ لِأَنَّهُ إذَا سَمَّى مَوْضِعًا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِيهِ عَظْمٌ كَانَ تَرَاضِيًا عَلَى قَطْعِهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْعَظْمِ، وَلِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالنَّوَى فِي التَّمْرِ وَلِذَا جَازَ السَّلَمُ فِي الْأَلِيَّةِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ عَظْمٍ وَالسَّلَمِ فِيهَا وَفِي الشَّحْمِ بِالْإِجْمَاعِ (بِخِلَافِ لَحْمِ الطُّيُورِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وَصْفُ مَوْضِعٍ مِنْهُ) لِأَنَّ عُضْوَ الطَّيْرِ صَغِيرٌ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي مَنْعِهِ مُطْلَقًا.
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ مَا لَا يُصْطَادُ مِنْ الطُّيُورِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَلَا فِي لَحْمِهِ.
وَمَا صِيدَ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَهُمَا يَجُوزُ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ.
وَقِيلَ يَجُوزُ عِنْدَ الْكُلِّ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنْ الْعَظْمِ لَا يَعْتَبِرُهُ النَّاسُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْمَلُ مَا فِي الْكِتَابِ مِنْ الْمَنْعِ مُطْلَقًا فِي مَخْلُوعِ الْعَظْمِ.
فَإِنَّ الْعِلَّةَ حِينَئِذٍ ثَابِتَةٌ.
ثُمَّ يَجِبُ أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فِي مِائَةِ رِطْلٍ مِنْ لَحْمِ الدَّجَاجِ مَثَلًا أَنْ يُعَيِّنَ الْمَوْضِعَ بَعْدَ كَوْنِهِ بِعَظْمٍ.
فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُحِبُّ الصَّدْرَ مِنْهَا فَيَقول أَوْرَاكًا أَوْ غَيْرِ الصَّدْرِ أَوْ يَنُصُّ عَلَى صَدْرِهَا وَأَوْرَاكِهَا، فَإِنْ أَطْلَقَ فَقَالَ مِنْ لَحْمِ الدَّجَاجِ السَّمِينِ يَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزُ لِلْمُنَازَعَةِ بِسَبَبِ مَا ذَكَرْنَا لِاخْتِلَافِ أَغْرَاضِ النَّاسِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَقَعُ سَلَمًا فِي الْمَجْهُولِ لِتَفَاوُتِ اللَّحْمِ بِقِلَّةِ الْعَظْمِ وَكَثْرَتُهُ، بِخِلَافِ لَحْمِ السَّمَكِ فَإِنَّ مَضْمُونَهُ مِنْ الْعَظْمِ قَلِيلٌ مَعْلُومٌ إهْدَارُهُ بَيْنَ النَّاسِ.
وَلِذَا هُوَ فَرْقٌ بَيْنَ لَحْمِ السَّمَكِ وَغَيْرِهِ.
وَقولهُمَا إذَا سَمَّى مَوْضِعًا كَانَ تَرَاضِيًا عَلَى قَطْعِهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْعَظْمِ.
قُلْتُ: لِلْمُشَاهَدِ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ حَالًا بِعَظْمِهِ جَرَيَانُ الْمُعَاكَسَةِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الْعَظْمِ، حَتَّى أَنَّ الْمُشْتَرِي يَسْتَكْثِرُهُ فَيَأْمُرُهُ بِنَزْعِ بَعْضِهِ وَالْجَزَّارُ يَدُسُّهُ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ فِي الْمُؤَجَّلِ الْمُسْتَأْخَرِ التَّسْلِيمُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي مَخْلُوعِ الْعَظْمِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ.
ثَانِيهِمَا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْفُصُولِ سِمَنًا وَهُزَالًا، فَلَوْ سَمَّى السَّمِينَ قَدْ يَكُونُ انْتِهَاءُ الْأَجَلِ فِي فَصْلِ الْهُزَالِ.
وَحَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ سَلَّمَ فِي الْمُنْقَطِعِ وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ فِي مَخْلُوعِ الْعَظْمِ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ شُجَاعٍ عَنْهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْأَصَحُّ) لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ يَثْبُتُ مَعَ إحْدَاهُمَا كَمَا يَثْبُتُ مَعَهُمَا.
وَقولهُمَا يَضْمَنُ بِالْمِثْلِ مَمْنُوعٌ بِمَا ذُكِرَ فِي بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فِيمَنْ غَصَبَ لَحْمًا فَشَوَاهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ لَا يَسْقُطُ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ اللَّحْمِ.
قِيلَ وَلَا تُوجَدُ رِوَايَةٌ بِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ إلَّا هُنَا مِنْ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، لَكِنْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى أَنَّهُ رَأَى وَسَطَ غَصْبِ الْمُنْتَقَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا اسْتَهْلَكَ لَحْمًا قَالَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَحَلَّ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ (أَنَّ الْقَبْضَ) أَيْ قَبْضَ اللَّحْمِ الْقَرْضُ (يُعَايِنُ فَيَعْرِفُ مِثْلَهُ بِهِ) أَيْ بِالْمَقْبُوضِ.
أَمَّا السَّلَمُ فَلَيْسَ فِيهِ مَقْبُوضٌ مُعَيَّنٌ بَلْ مُجَرَّدُ وَصْفٍ فَلَا يُكْتَفَى بِهِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا وَكَذَا الِاسْتِقْرَاضُ وَزْنًا أَيْضًا مَمْنُوعٌ بَلْ ذَاكَ مَذْهَبُهُمَا، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ أَيْ تَسْلِيمِ أَنَّ ضَمَانَ اللَّحْمِ بِالْمِثْلِ كَمَا اخْتَارَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالْمِثْلِ إلَّا أَنْ يَنْقَطِعَ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ جَرَيَانَ رِبَا الْفَضْلِ فِيهِ قَاطِعٌ بِأَنَّهُ مِثْلِيٌّ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالسَّلَمِ بِأَنَّ الْمُعَادَلَةَ فِي الضَّمَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، وَتَمَامُ الْمُعَادَلَةِ بِالْمِثْلِ لِأَنَّهُ مَثَلٌ صُورَةً وَمَعْنًى.
أَمَّا الْقِيمَةُ فَمِثْلٌ مَعْنًى فَقَطْ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ رَدُّ الْعَيْنِ وَالْمِثْلُ أَقْرَبُ إلَى الْعَيْنِ، بِخِلَافِ الْقِيمَةِ، وَكَذَا بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ اسْتِقْرَاضِهِ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّلَمِ وَالْقَرْضِ أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْقَرْضِ مُعَايَنٌ مَحْسُوسٌ فَأَمْكَنَ اعْتِبَارَ الْمَقْبُوضِ ثَانِيًا بِالْأَوَّلِ.
أَمَّا السَّلَمُ فَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ وَبِالْوَصْفِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا تُعْرَفُ مُطَابَقَتُهُ لِلْمَوْجُودِ عِنْدَ الْقَبْضِ كَمَعْرِفَةِ مُطَابَقَتِهِ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَقْبُوضِ الْمُوجِبِ لِلْمِثْلِ، وَهَذَا مَعْنَى قولهِ أَمَّا الْوَصْفُ فَلَا يُكْتَفَى بِهِ: أَيْ لَا يَكْتَفِي بِالْوَصْفِ فِي مَعْرِفَةِ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالْمَقْبُوضِ كَمَا هُوَ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ أَوَّلًا وَالْمَقْبُوضِ ثَانِيًا.
وَلَمَّا أَهْدَرَ الشَّارِعُ فِي بَابِ الرِّبَا كَوْنُ الْجُودَةِ فَارِقًا ثَبَتَ الرِّبَا بَيْنَ لَحْمَيْ نَوْعٍ مُتَفَاضِلًا وَإِنْ اخْتَلَفَ مَوْضِعُهُمَا كَلَحْمِ فَخِذٌ مَعَ لَحْمِ ضِلْعٍ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَّا مُؤَجَّلًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ حَالًّا لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ.
وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فِيمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً دَفْعًا لِحَاجَةِ الْمَفَالِيسِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَجَلِ لِيَقْدِرَ عَلَى التَّحْصِيلِ فِيهِ فَيُسَلِّمُ، وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ لَمْ يُوجَدْ الْمُرَخِّصُ فَبَقِيَ عَلَى النَّافِي.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَّا مُؤَجَّلًا) وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ السَّلَمُ الْحَالُّ) بِأَنْ يَقول مَثَلًا: أَسْلَمْتُ هَذِهِ الْعَشَرَةَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا إلَى آخِرِ الشُّرُوطِ.
وَبِهِ قَالَ عَطَاءُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (لِإِطْلَاقِ النَّصِّ) وَهُوَ قولهُ (وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ) وَالظَّاهِرِ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَدِيثٍ.
وَهَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَإِنَّمَا الْوَجْهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي اشْتِرَاطِ الْأَجَلِ فَوَجَبَ نَفْيُهُ، وَرُبَّمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى نَفْيِهِ بِأَنَّهُ لَوْ شُرِطَ الْأَجَلُ لَكَانَ لِتَحْصِيلِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ الَّتِي هِيَ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَاقِدِ أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْفَرْضُ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا حَقِيقَةً فَقَدْ ثَبَتَتْ قُدْرَتُهُ بِمَا دَخَلَ فِي يَدِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْرُجُ بِالْكِتَابَةِ مِنْ يَدِ مَوْلَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ فِي مُلْكِهِ شَيْءٌ فَلَا يَصِيرُ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمٍ بَدَلَ الْكِتَابَةِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالكُمْ بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالتَّأْجِيلِ فِي السَّلَمِ فَيَمْنَعُ الْحَالَّ، بَلْ مَعْنَاهُ: مَنْ أَسْلَمَ فِي مَكِيلٍ فَلْيُسْلِمْ فِي مَكِيلٍ مَعْلُومٍ أَوْ فِي مَوْزُونٍ فَلْيُسْلِمْ فِي مَوْزُونٍ مَعْلُومٍ أَوْ إلَى أَجَلٍ فَلِيَكُنْ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ أَيْضًا أَمْرًا بِأَنْ يَكُونَ السَّلَمُ فِي مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَلَمْ يَجُزْ فِي الْمَعْدُودِ وَالْمَذْرُوعِ لِأَنَّ النَّسَقَ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ.
وَنَحْنُ نَقول: لَا شَكَّ أَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ قَاطِبَةً فِي إخْرَاجِهِ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْعَامِّ لِلتَّرْخِيصِ لِلْمَفَالِيسِ الْمُحْتَاجِينَ إلَى نَفَقَةٍ عَاجِلَةٍ قَادِرِينَ عَلَى الْبَدَلِ بِقُدْرَةٍ آجِلَةٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَحِلُّ الرُّخْصَةِ إلَّا مَعَ ذِكْرِ الْأَجَلِ فَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، وَكَوْنُهُ قَادِرًا حَالَ الْعَقْدِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمُبِيحُ فِي حَقِّهِ.
وَلَمَّا كَانَ جَوَازُهُ لِلْحَاجَةِ وَهِيَ بَاطِنَةٌ أُنِيطَ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ كَمَا هُوَ الْمُسْتَمِرُّ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ كَالسَّفَرِ لِلْمَشَقَّةِ وَنَحْوَهُ وَهُوَ ذَكَرَ الْأَجَلَ فَلَمْ يَلْتَفِتْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى كَوْنِ الْمَبِيعِ مَعْدُومًا مِنْ عِنْدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ مَوْجُودًا قَادِرًا هُوَ عَلَيْهِ، فَقول الْمُصَنِّفُ (وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ لَمْ يُوجَدْ الْمُرَخَّصُ) مَعْنَاهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْأَجَلَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقولهُمْ: الْغَرَرُ فِي السَّلَمِ الْحَالِ أَقَلُّ مِنْهُ فِي الْمُؤَجَّلِ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا لَا يُفِيدُ شَيْئًا: أَعْنِي بَعْدَمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ إلَى الْمَالِ الْعَاجِزِ عَنْ الْعِوَضِ فِي الْحَالِ، فَإِنَّ الْغَرَرَ قَدْ يُحْمَلُ فِيهِ لِتِلْكَ الْحَاجَةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي السَّلَمِ الْحَالِّ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَالْأَجَلُ أَدْنَاهُ شَهْرٌ وَقِيلَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْأَجَلُ أَدْنَاهُ شَهْرٌ إلَى آخِرِهِ) فِي التُّحْفَةِ: لَا رِوَايَةٌ عَنْ أَصْحَابِنَا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَبْسُوطِ فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ.
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُمْ.
وَالْأَصَحُّ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالشَّهْرِ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْآجِلِ وَأَقْصَى الْعَاجِلِ.
وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: الصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ مُحَقَّقٌ فِيهِ، وَكَذَا مَا عَنْ الْكَرْخِيِّ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِلَى عُرْفِ النَّاسِ فِي تَأْجِيلِ مِثْلِهِ، كُلُّ هَذَا تَنْفَتِحُ فِيهِ الْمُنَازَعَاتُ، بِخِلَافِ الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الزَّمَانِ.
وَفِي الْإِيضَاحِ: فَإِنْ قَدَّرَا نِصْفَ يَوْمٍ جَازَ، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا قَدَّرُوا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اسْتِدْلَالًا بِمُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ ثَمَّةَ بِالثَّلَاثِ بَيَانُ أَقْصَى الْمُدَّةِ، فَأَمَّا أَدْنَاهُ فَغَيْرُ مُقَدَّرٌ انْتَهَى.
وَالتَّقْدِيرُ بِالثَّلَاثِ يُرْوَى عَنْ الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ أُسْتَاذُ الطَّحَاوِيِّ.
وَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَلِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ وَهِيَ مَا إذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دِينَهُ عَاجِلًا فَقَضَاهُ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ فَكَانَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ، فَالشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ آجِلٌ، قَالُوا: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.

متن الهداية:
(وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَلَا بِذِرَاعِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُهُ لِأَنَّهُ تَأَخَّرَ فِيهِ التَّسْلِيمُ فَرُبَّمَا يَضِيعُ فَيُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمِكْيَالُ مِمَّا لَا يَنْقَبِضُ وَلَا يَنْبَسِطُ كَالْقِصَاعِ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْكَبِسُ بِالْكَبْسِ كَالزِّنْبِيلِ وَالْجِرَابِ لَا يَجُوزُ لِلْمُنَازَعَةِ إلَّا فِي قُرْبِ الْمَاءِ لِلتَّعَامُلِ فِيهِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ: (وَلَا فِي طَعَامِ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا) أَوْ ثَمَرَةِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا لِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَرِيهِ آفَةٌ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ قَال: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّمَرَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» وَلَوْ كَانَتْ النِّسْبَةُ إلَى قَرْيَةٍ لِبَيَانِ الصِّفَةِ لَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا قَالُوا كالخشمراني بِبُخَارَى وَالْبَسَاخِيِّ بِفَرْغَانَةَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَبِذِرَاعِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ إذَا كَانَ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ) أَمَّا إذَا عُرِفَ فَيَجُوزُ لِضَبْطِ الْمِقْدَارِ لَوْ تَلَفَ ذَلِكَ الْمِكْيَالُ وَالذِّرَاعُ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ احْتِمَالِ هَلَاكِ مَا قُدِّرَ بِهِ فَيَتَعَذَّرُ الْإِيفَاءُ.
قَالَ: (وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ) يُرِيدُ أَوَّلَ كِتَابِ الْبُيُوعِ وَهُوَ قولهُ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ وَبِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ، إلَى أَنْ قَالَ: بِخِلَافِ السَّلَمِ إلَى آخِرِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيْضًا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لَيْسَ بِمُكَايَلَةٍ وَلَا مُجَازَفَةٍ، وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَالْحَصْرُ مَمْنُوعٌ وَيَتَقَدَّرُ التَّسْلِيمُ فَهَذَا بَيْعٌ مُجَازَفَةً، ثُمَّ لَا بُدَّ (أَنْ يَكُونَ الْمِكْيَالُ مِمَّا لَا يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ كَالْقِصَاعِ) وَالْحَدِيدِ وَالْخَزَفِ (فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْكَبِسُ بِالْكَبْسِ كَالزِّنْبِيلِ) وَالْغِرَارَةِ (لَا يَجُوزُ لِلْمُنَازَعَةِ) عِنْدَ التَّسْلِيمِ (إلَّا فِي قُرْبِ الْمَاءِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِلتَّعَامُلِ فِيهِ) فَإِنَّهُ أَجَازَهُ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ سِقَاءِ كَذَا كَذَا قِرْبَةً مِنْ مَاءِ النِّيلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مَثَلًا بِهَذِهِ الْقِرْبَةِ وَعَيَّنَهَا جَازَ الْبَيْعُ، وَمُقْتَضَى الْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إذَا عَيَّنَ هَذِهِ الْقِرْبَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَكِنْ بِمِقْدَارِهَا.
وَالزِّنْبِيلُ بِالْفَتْحِ بِلَا تَشْدِيدٍ وَبِالْكَسْرِ مُشَدَّدُ الْبَاءِ وَيُقَالُ زِنْبِيلٌ أَيْضًا.
قولهُ: (وَلَا فِي طَعَامِ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا) كَحِنْطَةِ بَلْدَةِ الْفَهْمِيِّينَ وَالْمَحَلَّةِ بِبِلَادِ مِصْرَ (أَوْ ثَمَرَةِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا) أَوْ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ (لِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَرِيهِ آفَةٌ فَتَنْتَفِي قُدْرَةُ التَّسْلِيمِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقوله: «أَرَأَيْتَ لَوْ ذَهَبَ ثَمَرَةُ هَذَا الْبُسْتَانِ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ») فَإِنَّ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَذَا الْبَيْعِ ثَمَنًا إنْ لَمْ يُخْرِجْ هَذَا الْبُسْتَانُ شَيْئًا فَكَانَ فِي بَيْعِ ثَمَرِ هَذَا الْبُسْتَانِ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ فَلَا يَصِحُّ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ صَعِيدِيَّةٍ أَوْ شَامِيَّةٍ فَإِنَّ احْتِمَالَ أَنْ لَا يَنْبُتَ فِي الْإِقْلِيمِ بِرُمَّتِهِ شَيْءٌ ضَعِيفٌ فَلَا يَبْلُغُ الْغَرَرَ الْمَانِعَ مِنْ الصِّحَّةِ فَيَجُوزُ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ عَدَمَ صِحَّةِ الْبَيْعِ سَوَاءٌ كَانَ وُرُودُهُ فِي السَّلَمِ أَوْ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا.
وَالْوَاقِعُ أَنَّ مَعْنَاهُ وَرَدَّ فِي السَّلَمِ وَفِي الْبَيْعِ، أَمَّا فِي السَّلَمِ فَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ فِي الَّذِي أَسْلَمَ فِي تِلْكَ الْحَدِيقَةِ النَّخْلَ فَلَمْ يَطْلُعْ شَيْءٌ فَأَرَادَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ الثَّمَنَ الَّذِي كَانَ أَخَذَهُ وَقَالَ إنَّمَا النَّخْلُ هَذِهِ السَّنَةُ، حَيْثُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَخَذَ مِنْ نَخْلِكَ شَيْئًا؟ قَالَ لَا، قَالَ، بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَهُ؟ اُرْدُدْ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ» الْحَدِيثُ.
وَأَمَّا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنَّ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟» فَيَصْدُقُ عَلَى كُلٍّ مِنْ السَّلَمِ وَالْبَيْعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ وَيُوجِبُ رَدَّ الثَّمَنِ فَهُوَ دَلِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «إنْ لَمْ يُثْمِرْهَا اللَّهُ فَبِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ هَذَا؟» (فَلَوْ كَانَتْ نِسْبَةُ الثَّمَرَةِ إلَى قَرْيَةٍ) مُعَيَّنَةٍ (لِبَيَانِ الصِّفَةِ) لَا لِتَعْيِينِ الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِهَا بِعَيْنِهِ (كالخشمراني وَالْبَسَاخِيِّ) بِبُخَارَى وَهِيَ قَرْيَةٌ حِنْطَتُهَا جَيِّدَةٌ (بِفَرْغَانَةَ لَا بَأْسَ بِهِ) وَلِأَنَّهُ لَا يُرَادُ خُصُوصُ النَّابِتِ هُنَاكَ، بَلْ الْإِقْلِيمُ، وَلَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ الْحِنْطَةِ هُنَاكَ لِأَنَّهُ إقْلِيمٌ، وَكَذَا إذَا قَالَ مِنْ حِنْطَةِ هَرَاةَ يُرِيدُ هَرَاةَ خُرَاسَانَ وَلَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ طَعَامِ إقْلِيمٍ بِكَمَالِهِ، فَالسَّلَمُ فِيهِ وَفِي طَعَامِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ سَوَاءٌ، وَكَذَا فِي دِيَارِ مِصْرَ فِي قَمْحِ الصَّعِيدِ.
وَاَلَّذِي فِي الْخُلَاصَةِ وَذَكَرَ مَعْنَاهُ فِي الْمُجْتَبِي وَفِي غَيْرِهِ: لَوْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ بُخَارَى أَوْ حِنْطَةِ سَمَرْقَنْدَ أَوْ إسْبِيجَابَ لَا يَجُوزُ لِتَوَهُّمِ انْقِطَاعِهِ.
وَلَوْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ هَرَاةَ لَا يَجُوزُ، وَفِي ثَوْبِ هَرَاةَ وَذَكَرَ شُرُوطَ السَّلَمِ يَجُوزُ لِأَنَّ حِنْطَتَهَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا إذْ الْإِضَافَةُ لِتَخْصِيصِ الْبُقْعَةِ فَيَحْصُلُ السَّلَمُ فِي مَوْهُومِ الِانْقِطَاعِ، بِخِلَافِ إضَافَةِ الثَّوْبِ لِأَنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ لَا لِتَخْصِيصِ الْمَكَانِ، وَلِذَا لَوْ أَتَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ بِثَوْبٍ نُسِجَ فِي غَيْرِ وِلَايَةِ هَرَاةَ مِنْ جِنْسِ الْهَرَوِيِّ: يَعْنِي مِنْ صِفَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ يُجْبَرُ رَبُّ السَّلَمِ عَلَى قَبُولِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَانِعَ وَالْمُقْتَضِي الْعُرْفُ، فَإِنْ تُعُورِفَ كَوْنُ النِّسْبَةِ لِبَيَانِ الصِّفَةِ فَقَطْ جَازَ وَإِلَّا فَلَا يُبَيِّنُهُ مَا فِي الْخُلَاصَةِ قَالَ: لَوْ كَانَ ذَكَرَ النِّسْبَةَ لَا لِتَعْيِينِ الْمَكَانِ كالخشمراني فَإِنَّهُ يُذْكَرُ لِبَيَانِ الْجُودَةِ لَا يَفْسُدُ السَّلَمُ، وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ حِنْطَةُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِثْلَ الثَّوْبِ جَازَ السَّلَمُ وَإِلَّا لَا، أَمَّا السَّلَمُ فِي الْحِنْطَةِ الصَّعِيدِيَّةِ وَالْعِرَاقِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ فَلَا شَكٌّ فِي جَوَازِهِ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ حَدِيثَةٍ قَبْلَ حُدُوثِهَا فَالسَّلَمُ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ فِي الْحَالِ، وَكَوْنُهَا مَوْجُودَةٌ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ شَرْطٌ لِصِحَّةِ السَّلَمِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا بِسَبْعِ شَرَائِطَ: جِنْسٌ مَعْلُومٌ) كَقولنَا حِنْطَةٌ أَوْ شَعِيرٌ (وَنَوْعٌ مَعْلُومٌ) كَقولنَا سَقِيَّةٌ أَوْ بَخْسِيَّةٌ (وَصِفَةٌ مَعْلُومَةٌ) كَقولنَا جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ (وَمِقْدَارٌ مَعْلُومٌ) كَقولنَا كَذَا كَيْلًا بِمِكْيَالٍ مَعْرُوفٍ وَكَذَا وَزْنًا (وَأَجَلٌ مَعْلُومٌ) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا وَالْفِقْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا (وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ) كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ (وَتَسْمِيَةُ الْمَكَانِ الَّذِي يُوفِيهِ فِيهِ إذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ) وَقَالَا: لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْمِيَةِ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا وَلَا إلَى مَكَانِ التَّسْلِيمِ وَيُسَلِّمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ، فَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ.
وَلَهُمَا فِي الْأُولَى أَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ وَصَارَ كَالثَّوْبِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رُبَّمَا يُوجَدُ بَعْضُهَا زُيُوفًا لَا يَسْتَبْدِلُ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهُ لَا يَدْرِي فِي كَمْ بَقِيَ أَوْ رُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إلَى رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْمَوْهُومُ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَالْمُتَحَقِّقِ لِشَرْعِهِ مَعَ الْمُنَافِي، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا لِأَنَّ الذَّرْعَ وَصْفٌ فِيهِ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا بِسَبْعِ شَرَائِطَ) تُذْكَرُ فِي الْعَقْدِ.
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَهِيَ الْخَمْسُ الْأُولَى.
وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلسَّلَمِ شُرُوطًا غَيْرِهَا وَلَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ ذِكْرُهَا فِي الْعَقْدِ بَلْ وُجُودُهَا.
وَشَرَائِطُ جَمْعُ شَرِيطَةٌ، فَقول بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ سَبْعٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ سَبْعَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمَعْدُودِ شَرْطًا وَسَبْعٌ عَلَى تَقْدِيرِهَا شَرِيطَةٌ وَكُلٌّ وَارِدٌ عَلَى اعْتِبَارٍ خَاصٍّ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ النُّسَخِ لَيْسَ إلَّا الْمَشْهُورُ سَبْعُ شَرَائِطِ (جِنْسٌ مَعْلُومٌ كَحِنْطَةٍ شَعِيرٍ وَنَوْعٌ مَعْلُومٌ كَسَقِيَّةٍ) وَهِيَ مَا يُسْقَى سَيْحًا (أَوْ بَخْسِيَّةٍ) وَهِيَ مَا يُسْقَى بِالْمَطَرِ وَنَسَبَتْ إلَى الْبَخْسِ لِأَنَّهَا مَبْخُوسَةُ الْحَظِّ مِنْ الْمَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّيْحِ غَالِبًا (وَصِفَةٌ مَعْلُومَةٌ كَجَيِّدٍ رَدِيءٍ) وَسَطٌ مُشْعِرٌ سَالِمٌ مِنْ الشَّعِيرِ (وَمِقْدَارٌ مَعْلُومٌ كَذَا كَيْلًا بِمِكْيَالٍ مَعْلُومٍ) فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ تُشْتَرَطُ فِي كُلٍّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ فَهِيَ ثَمَانِيَةٌ بِالتَّفْصِيلِ، فَإِنَّ مَا يَجُوزُ كَوْنُهُ مُسَلَّمًا فِيهِ يَجُوزُ كَوْنُهُ رَأْسَ السَّلَمِ وَلَا يَنْعَكِسُ، فَإِنَّ النُّقُودَ تَكُونُ رَأْسَ مَالٍ وَلَا سَلَمَ فِيهِ (وَ) الْخَامِسُ (أَجَلٌ مَعْلُومٌ) وَالْأَصْلُ فِيهِ: أَيْ فِي اشْتِرَاط هَذِهِ الْخَمْسَةِ مَا رَوَيْنَا: يَعْنِي قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ» الْحَدِيثُ، نَصَّ عَلَى شَرْطَيِّ الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ وَالْأَجَلِ الْمَعْلُومِ، وَثَبَتَ بَاقِي الْخَمْسَةِ بِالدَّلَالَةِ لِظُهُورِ إرَادَةِ الضَّبْطِ الْمُنَافِي لِلْمُنَازَعَةِ.
وَقولهُ (وَالْفِقْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قولهُ وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ (وَ) السَّادِسُ (ذِكْرُ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ) يَعْنِي تَنْقَسِمُ أَجْزَاءَ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى أَجْزَائِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِنْ الْمَكِيلَاتِ أَوْ الْمَوْزُونَاتِ أَوْ الْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَهَذَا الشَّرْطُ فِي قَدْرِهِ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ ثَوْبًا لِأَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ، وَإِعْلَامُ الْوَصْفِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فَوَجَدَهُ أَحَدَ عَشَرَ تُسَلَّمُ لَهُ الزِّيَادَةُ، وَلَوْ وَجَدَهُ تِسْعَةٌ لَا يَحُطُّ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى عَدَدِ الذُّرْعَانِ لِيُشْتَرَطَ إعْلَامُهُ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءُ فَجَهَالَةُ قَدْرِ الذُّرْعَانِ لَا تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَهُنَا الْمُسْلَمُ فِيهِ بِمُقَابِلَةِ الْمُقَدَّرَاتِ فَيُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدَ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ اتِّفَاقًا فَصَارَتْ أَحَدَ عَشَرَ شَرْطًا.
وَالثَّانِي عَشَرَ تَسْمِيَةُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ وَهُوَ يَخُصُّ الْمُسْلَمَ فِيهِ.
وَالثَّالِثُ عَشْرَ أَنَّ أَنْ لَا يَشْمَلَ الْبَدَلَيْنِ إحْدَى عِلَّتِي الرِّبَا لِأَنَّ انْفِرَادَ أَحَدِهِمَا يُحَرِّمُ النِّسَاءَ وَأَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ.
وَالرَّابِعُ عَشَرَ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْمُسْلَمُ فِيهِ بِالتَّعْيِينِ فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَتَقَدَّمَ، فِي التِّبْرِ رِوَايَتَانِ.
وَالْخَامِسُ عَشَرَ انْعِقَادُ الثَّمَنِ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ، كَذَا ذُكِرَ بِسَبَبِ اشْتِرَاطِهِ لِأَجْلِ إعْلَامِ قَدْرِهِ (وَ) السَّابِعُ (تَسْمِيَةُ الْمَكَانِ الَّذِي يُوفِيهِ فِيهِ إذَا كَانَ لِلْمُسَلَّمِ فِيهِ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ) أَيْ إذَا كَانَ نَقْلُهُ يَحْتَاجُ إلَى أُجْرَةٍ وَنَحْوِهِ لِثِقَلِهِ (وَقَالَا: لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْمِيَةِ رَأْسَ الْمَالِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا) يَقْبِضُهُ دُفْعَةً (وَلَا إلَى مَكَانِ التَّسْلِيمِ وَيُسَلِّمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ، فَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ) خِلَافِيَّتَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا (لَهُمَا فِي الْأُولَى) وَبِقولهِمَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قول إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إعْلَامِ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ بِلَا مُنَازَعَةً (يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ) إلَى الْعَيْنِ الثَّمَنُ الْمُعَجَّلُ فَأُغْنِي عَنْ إعْلَامِ قَدْرِهِ وَصَارَ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ الْمُعَجَّلِ، وَالْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْمُضَارَبَةِ إذَا دَفَعَ إلَى آخَرَ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةِ الْمِقْدَارِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَكَرَأْسِ الْمَالِ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَلَيْهِ كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ فِيهِ إعْلَامُ كَمْيَّةِ ذُرْعَانِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَهُ.
مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ بِهِ، وَقول الْفَقِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ.
وَالْقِيَاسُ عَلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ بِجَامِعِ أَنَّهُ عِوَضٌ تَنَاوَلَهُ عَقْدُ السَّلَمِ، وَلِأَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَانِعٌ اتِّفَاقًا وَجَهَالَةُ رَأْسِ الْمَالِ مُؤَدٍّ إلَيْهِ، وَمَا يُؤَدِّي إلَى الْمُمْتَنِعِ شَرْعًا مُمْتَنِعٌ شَرْعًا.
بَيَانُ تَأْدِيَتِهِ إلَيْهِ أَنَّهُ رُبَّمَا يُنْفِقُ رَأْسَ الْمَالِ كَمَا يُنْفِقُهُ الْمُحْتَاجُونَ فَرُبَّمَا يَظْهَرُ فِيهِ زُيُوفٌ فَيَخْتَارُ الِاسْتِبْدَالَ بِهِ وَرَدَّهُ.
وَقَدْ يَكُونُ أَكْثَرُ رَأْسِ الْمَالِ زُيُوفًا فَإِنَّهُ إذَا رَدَّهُ وَاسْتَبْدَلَ بِهَا فِي الْمَجْلِسِ يَفْسُدُ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ الِاسْتِبْدَالَ فِي أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ خِلَافًا لَهُمَا.
وَقَدْ لَا يُتَّفَقُ الِاسْتِبْدَالُ بِهَا فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْرُ الْمَكِيلِ مَعْلُومًا لَمْ يَدْرِ فِي كَمْ انْتَقَضَ وَفِي كَمْ بَقِيَ فَيَصِيرُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولُ الْمِقْدَارِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ يَلْزَمُ هَذَا أَيْضًا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْهُومًا فَالْمَوْهُومُ فِي هَذَا الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْمَعْلُومِ (لِشَرْعِهِ مَعَ الْمُنَافِي) وَهُوَ كَوْنُ الْمَبِيعِ مَعْدُومًا فَإِنَّ مَا يُشْرَعُ لِذَلِكَ يَكُونُ ضَعِيفًا فِي الشَّرْعِيَّةِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ تَوَهُّمُ الْغَرَرَ الْمَذْكُورِ.
وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَعْلِيلُ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ ثَمَرَةَ هَذَا الْحَائِطِ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا لِأَنَّ الذَّرْعَ وَصْفٌ فِيهِ) وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةً فَإِذَا هُوَ خَمْسَةُ عَشَرَ كَانَ كُلُّهُ لَهُ وَالْمَبِيعُ لَا يُقَابِلُ الْأَوْصَافَ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ، وَلِهَذَا لَوْ ظَهَرَ الثَّوْبُ أَوْ الْحَيَوَانُ الْمَجْعُولُ رَأْسَ مَالٍ مُخَرَّقًا وَسَمَّى عَدَدًا مِنْ الذَّرِعَانِ فِيهِ فَوَجَدَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَنْقَصَ أَوْ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ تَالِفًا لَا يَنْتَقِصُ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ شَيْءٌ.
بَلْ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ بِكُلِّ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ.
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ هَذَا اعْتِبَارٌ لِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ أَوْ أَنْزَلَ مِنْهَا فَإِنَّ فِي وُجُودِ الزَّيْفِ احْتِمَالًا.
ثُمَّ اخْتِيَارُ الرَّدِّ كَذَلِكَ، ثُمَّ عَدَمُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فِيهِ أَيْضًا ذَلِكَ، وَالْمُعْتَبَرُ الشُّبْهَةُ لَا النَّازِلُ كَمَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الشُّبْهَةُ لَا غَيْرُ وَهُوَ احْتِمَالُ أَنْ لَا تَخْرُجَ الثَّمَرَةُ.
أُجِيبَ تَارَةٌ بِأَنَّهَا شُبْهَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّ الْكُلَّ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِ الزَّيْفِ، وَتَارَةٌ بِأَنَّ السُّؤَالَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ كَالنَّقْدِ مَعَ النَّسِيئَةِ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْمَوْهُومُ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ طَرِيقَ الْمَنْعِ مَا انْحَصَرَ فِي وُجُودِ الزَّيْفِ بَلْ ظُهُورُ اسْتِحْقَاقِ رَأْسِ الْمَالِ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ طَرِيقٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ اعْتِبَارِ الْمَوْهُومِ فِي هَذَا الْعَقْدِ إجْمَاعُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ السَّلَمُ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَا يَعْرِفُ مِقْدَارَهُ لِاحْتِمَالِ هَلَاكِ هَذَا الْكَيْلِ قَبْلَ الْحُلُولِ.

متن الهداية:
وَمِنْ فُرُوعِهِ:
إذَا أَسْلَمَ فِي جِنْسَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ رَأْسَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ أَسْلَمَ جِنْسَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ أَحَدِهِمَا.
وَلَهُمَا فِي الثَّانِيَةِ أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ يَتَعَيَّنُ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهُ مَكَانٌ آخَرَ فِيهِ فَيَصِيرُ نَظِيرُ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فِي الْأَوَامِرِ فَصَارَ كَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّسْلِيمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِّ فَلَا يَتَعَيَّنُ، بِخِلَافِ الْقَرْضِ وَالْغَصْبِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَالْجَهَالَةُ فِيهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، لِأَنَّ قِيَمَ الْأَشْيَاءِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ، وَصَارَ كَجَهَالَةِ الصِّفَةِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَهُ يُوجِبُ التَّخَالُفَ كَمَا فِي الصِّفَةِ.
وَقِيلَ عَلَى عَكْسِهِ لِأَنَّ تَعَيُّنِ الْمَكَانِ قَضِيَّةُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ وَالْقِسْمَةُ، وَصُورَتُهَا إذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَجَعَلَا مَعَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ.
وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الثَّمَنِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الدَّارِ وَمَكَانُ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ لِلْإِيفَاءِ.
قَالَ: (وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ (وَيُوفِيهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْبُيُوعِ.
وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّهُ يُوفِيهِ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا سَوَاءٌ، وَلَا وُجُوبَ فِي الْحَالِّ.
وَلَوْ عَيَّنَا مَكَانًا، قِيلَ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ، وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمِصْرَ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يُكْتَفَى بِهِ لِأَنَّهُ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا ذَكَرْنَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمِنْ فُرُوعِهِ) أَيْ مِنْ فُرُوعِ الْخِلَافِ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ (إذَا أَسْلَمَ فِي جِنْسَيْنِ) كَكُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرِ عَشَرَةً مَثَلًا (وَلَمْ يُبَيِّنْ رَأْسَ مَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا) مِنْ الْعَشَرَةِ (أَوْ أَسْلَمَ جِنْسَيْنِ) كَدَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ كَبُرٍّ أَوْ أَسْلَمَ تَمْرًا وَحِنْطَةً مُعَيَّنِينَ فِي كَذَا مَنًّا مِنْ الزَّعْفَرَانِ (وَلَمْ يُبَيِّن مِقْدَارُ أَحَدِهِمَا) يَعْنِي عَرَفَ مِقْدَارَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ السَّلَمُ لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ فِي حِصَّةِ مَا لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُهُ فَيَبْطُلُ فِي الْآخَرِ أَيْضًا لِاتِّحَادِ الصِّفَةِ أَوْ (لِجَهَالَةِ حِصَّةِ الْآخَرِ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَيَكُونُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولًا. وَلَهُمَا فِي) الْمَسْأَلَةِ (الثَّانِيَةِ) وَهِيَ اشْتِرَاطُ مَكَانِ التَّسْلِيمِ فِيمَا لَهُ مُؤْنَةٌ (أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ يَتَعَيَّنُ) لِلْإِيفَاءِ (لِوُجُودِ الْعَقْدِ) فِيهِ (الْمُوجِبُ لِلتَّسْلِيمِ) مَا لَمْ يَصْرِفَاهُ بِاشْتِرَاطِ مَكَانِ غَيْرِهِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مُقْتَضَى عَقْدٍ مُطْلَقٍ، فَلَا يُرَدُّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لَمَا صَحَّ اشْتِرَاطُ غَيْرِهِ، فَإِنَّ تَغْيِيرَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مَرْدُودٌ أَوْ هُوَ مُفْسِدٌ عَلَى مَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَصَارَ كَانْصِرَافِهِ إلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ مَا لَمْ يُسَمِّيَا نَقْدًا غَيْرَهُ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَيَلْحَقُ بِالثَّمَنِ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِيَهُمَا مَعًا.
فَلَمَّا اقْتَضَى وُجُوبَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ وَجَبَ فِي الْآخَرِ كَذَلِكَ وَصَارَ الْمَكَانُ كَالزَّمَانِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ حَيْثُ يَتَعَيَّنُ لِلْوُجُوبِ لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ أَوْ لِلْأَدَاءِ عَلَى قول الْكَرْخِيِّ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ التَّسْلِيمَ يَحْتَاجُ إلَى مَكَان وَهَذَا الْمَكَانُ لَا يُزَاحِمُ فِيهِ غَيْرُهُ فَيَتَعَيَّنُ كَأَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَإِلْحَاقًا أَيْضًا بِالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ حَيْثُ يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ وَالْقَرْضِ وَالِاسْتِهْلَاكِ.
وَيَرِدُ أَنَّ كَوْنَ تَعْيِينِ غَيْرِ مَكَانِ الْعَقْدِ غَيْرِ مُفْسِدٍ يُنْقَضُ بِمَا إذَا اشْتَرَى كُرًّا وَشَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ حَمْلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ فَيُفْسِدُ سَوَاءٌ اشْتَرَاهُ فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجَهُ.
أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْعَيْنَ بِمُجَرَّدِ شِرَائِهَا، فَإِذَا شَرَطَ حَمْلًا فَقَدْ شَرَطَ عَمَلًا فِي مِلْكِهِ مَعَ الشِّرَاءِ ثُمَّ سُمِّيَ الثَّمَنُ فِي مُقَابِلَةِ ذَلِكَ كُلَّهُ فَصَارَ بَائِعًا آجِرًا وَمُشْتَرِيًا مُسْتَأْجِرًا مَعًا فَهُوَ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ فَيَفْسُدُ.
أَمَّا عَقْدُ السَّلَمِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي بِهِ الْعَيْنَ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا عَيْنٌ، فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ بِالْقَبْضِ بِالنَّقْلِ مِنْ مَكَان إلَى آخَرَ عَمَلٌ مِنْ الْبَائِعِ فِي مِلْكِهِ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ بَائِعًا وَآجِرًا.
وَأُورِدَ أَيْضًا فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَعْيِينِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ بَاعَ طَعَامًا وَالطَّعَامُ فِي السَّوَادِ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يَعْلَمُ مَكَانَهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ الْخِيَارُ.
وَلَوْ تَعَيَّنَ مَكَانُ الْبَيْعِ مَكَانًا لِلتَّسْلِيمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ، ثُمَّ قِيلَ: إنَّمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إذَا كَانَتْ خَوَابِيَ الْحِنْطَةِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مِصْرَ وَسَوَادٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُطَالِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ فِي أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ وَالْبَائِعُ يُسَلِّمُهُ إلَيْهِ فِي الْأَبْعَدِ، وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ أَنَّ مَكَانَ الْبَيْعِ لَا يَتَعَيَّنُ.
أَجَابَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا وَالْمَبِيعُ فِي السَّلَمِ حَاضِرٌ لِأَنَّهُ فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ وَهُوَ حَاضِرٌ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ فَالْمَبِيعُ حَاضِرٌ بِحُضُورِهِ وَفِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّسْلِيمَ) فِي السَّلَمِ (غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِ فَلَا يَتَعَيَّنُ) مَكَانَ الْعَقْدِ (بِخِلَافِ الْقَرْضِ وَالْغَصْبِ) فَإِنَّ التَّسْلِيمَ فِيهِمَا وَاجِبٌ فِي الْحَالِ فَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ سَبَبِ الْوُجُوبِ فِي الْحَالِ، وَكَذَا انْدَفَعَ قِيَاسُهُ عَلَى رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ فِي الْحَالِ وَتَضَمُّنُ مَنْعِ مَا قَالَا مِنْ أَنَّ وُجُودَ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ يُوجِبُ تَعْيِينَ مَكَانِهِ، بَلْ الْعَقْدُ يُوجِبُ التَّسْلِيمَ فَقَطْ إلَّا إنْ اقْتَضَى أَمْرًا آخَرَ تَعْيِينَ مَكَانِهِ (فَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَالْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، لِأَنَّ قِيَمَ الْأَشْيَاءِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ) دَفْعًا لِلْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ الْمُسَلِّمَ يُطَالِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ فِي مَكَان يَسْقُطُ عَنْهُ فِيهِ مُؤْنَةُ الْحَمْلِ وَتَرْتَفِعُ قِيمَتُهُ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَلَى عَكْسِهِ.
وَبِخِلَافِ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ وَاجِبٌ لِلْحَالِ فَافْتَرَقَا، وَإِلْحَاقُهُ بِالْأَمْرِ فِي تَعَيُّنِ أَوَّلِ الْأَوْقَاتِ بِلَا جَامِعٍ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ قولهُ التَّسْلِيمُ غَيْرُ وَاجِبٍ لِلْحَالِ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ مِمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ إذْ لَا مُلَازَمَةٌ تَظْهَرُ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَعَيُّنِهِ مَعَ تَأَخُّرِ التَّسْلِيمِ حَتَّى إذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَجَبَ تَسْلِيمُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَنْعِ تَعْيِينِ الْعَقْدِ الْمَكَانِ وَإِلْحَاقِهِمَا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَالْقَرْضِ ظَهَرَ الْفَارِقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ السَّلَمِ وَبِالثَّمَنِ فِي الْعَيْنِ مَحِلِّ النِّزَاعِ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ يَرَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَيْضًا إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا، وَأَنَّهُ يَجِبُ تَعْيِينُهُ أَيْضًا كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ وَبِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ يُمْنَعُ فِيهِ حُكْمُ الْأَصْلِ، فَإِنَّا لَا نُعَيِّنُ مَكَانَ الْعَقْدِ لِتَسْلِيمِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بَلْ أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لِنَفْيِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، فَلَوْ عَقَدَا السَّلَمَ وَمَشَيَا فَرْسَخًا ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ جَازَ.
وَقولهُمْ الْمُوجِبُ لِلتَّسْلِيمِ وُجِدَ فِيهِ.
قُلْنَا: نَعَمْ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْمُوجِبُ فِي مَكَان أَنْ يُوجِبَ مُقْتَضَاهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَإِنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ عَقْلِيَّةٌ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ فِي مَكَان وَأَثَرُهُ الْإِيجَابُ مُطْلَقًا فَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْمُلَازَمَةُ إلَّا سَمْعًا.
قولهُ: (وَعَنْ هَذَا) أَيْ وَعَنْ كَوْنِ الْمَكَانِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقِيمَةِ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ: إنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ فَإِنَّ اخْتِلَافَ الصِّفَةِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقِيمَةِ، فَهُوَ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جُودَتِهِ وَرَدَاءَتِهِ.
وَقِيلَ عَلَى عَكْسِهِ: أَيْ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفُ عِنْدَهُ بَلْ الْقول قول الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمَكَانِ لَيْسَ قَضِيَّةُ الْعَقْدِ عِنْدَهُ.
وَعِنْدَهُمَا يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمَكَانِ لَمَّا ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْعَقْدِ فِيهِ كَانَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ وَالِاخْتِلَافُ فِيهَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا هُنَا قَالَ: (وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الثَّمَنُ) فِي الْبَيْعِ النَّاجِزِ إذَا كَانَ لَهُ مُؤْنَةُ حَمْلٍ وَهُوَ مُؤَجَّلٌ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ (وَالْأُجْرَةُ) بِأَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا مَثَلًا بِمَا لَهُ حَمْلُ وَمُؤْنَةٍ وَهُوَ مُؤَجَّلٌ عِنْدَهُ يَشْتَرِطُ بَيَانُ مَكَانِ تَسْلِيمِهَا وَعِنْدَهُمَا لَا (وَالْقِسْمَةُ) فِيمَا (إذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَجَعَلَا مَعَ نُصِبْ أَحَدِهِمَا شَيْئًا لَهُ حَمْلُ وَمُؤْنَةٍ. وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الثَّمَنِ) بِالْإِجْمَاعِ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ) عِنْدَهُ (إذَا كَانَ مَوْجَلًا وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ. وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الدَّارِ) فِي الْقِسْمَةِ (وَمَكَانُ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ) فِي الْإِجَارَةِ (لِلْإِيفَاءِ).
قولهُ: (وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ) كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَالزَّعْفَرَانِ وَصِغَارِ اللُّؤْلُؤِ: يَعْنِي الْقَلِيلَ مِنْهُ وَإِلَّا فَقَدْ يُسَلَّمُ فِي أَمْنَانٍ مِنْ الزَّعْفَرَانِ كَثِيرَةٌ تَبْلُغُ أَحْمَالًا، وَكَذَا الْمِسْكُ وَصِغَارُ اللُّؤْلُؤِ لَا يَشْتَرِطُ فِيهِ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ قول الشَّافِعِيِّ (وَيُوفِيهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَسْلَمَهُ فِيهِ) وَكُلَّمَا قُلْنَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ مَعْنَاهُ إذَا كَانَ مِمَّا يَتَأَتَّى التَّسْلِيمُ فِيهِ وَمَا لَا بِأَنْ أَسْلَمَ إلَيْهِ دِرْهَمًا فِي مَرْكَبٍ فِي الْبَحْرِ أَوْ جَبَلٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا مِنْهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْبُيُوعُ) يَعْنِي مِنْ أَصْلِ الْمَبْسُوطِ، وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَاتِ مِنْ أَصْلِ الْمَبْسُوطِ (يُوفِيهِ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ) وَالْأَصَحُّ مِنْ قول الشَّافِعِيِّ أَيْضًا (لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلُّهَا سَوَاءٌ) إذْ الْمَالِيَّةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ فِيمَا لَا حِمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ، بَلْ بِعِزَّةِ الْوُجُودِ وَقِلَّتِهِ وَكَثْرَةِ رَغَبَاتِ النَّاسِ وَقِلَّتِهَا، بِخِلَافِ مَالَهُ مُؤْنَةٌ فَإِنَّ الْحِنْطَةَ وَالْحَطَبَ يُوجَدُ فِي الْمِصْرِ وَالسَّوَادِ ثُمَّ يُشْتَرَى فِي الْمِصْرِ بِأَكْثَرِ مِمَّا يُشْتَرَى فِي السَّوَادِ (وَلَوْ عَيَّنَا مَكَانًا، قِيلَ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ) وَالشَّرْطُ الَّذِي لَا يُفِيدُ لَا يَجُوزُ.
(وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ) وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ (ثُمَّ لَوْ عَيَّنَا الْمِصْرَ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يُكْتَفَى بِهِ لِأَنَّهُ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي أَنَّ الْقِيمَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمِصْرِ الْوَاحِدِ عَادَةً.
قِيلَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمِصْرُ عَظِيمًا، فَلَوْ كَانَ بَيْنَ جَوَانِبِهِ نَحْوَ فَرْسَخٍ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَى الْمُنَازَعَةِ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ.
وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَكَان يَحْمِلُهُ إلَى مَنْزِلِهِ لَا خَيْرَ فِيهِ.
وَلَوْ شَرَطَ الْحَمْلَ إلَى مَنْزِلِهِ ابْتِدَاءً قِيلَ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا.
وَرَوَى الْبَلْخِيّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ.
وَقِيلَ إنَّمَا لَا يَجُوزُ قِيَاسًا إذَا شَرَطَ الْإِيفَاءَ فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ الْحَمْلَ إلَى مَنْزِلِهِ.
أَمَّا لَوْ شَرَطَ الْإِيفَاءَ فِي مَنْزِلِهِ فَيَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.
وَفِي بَيْعِ الْعَيْنِ لَوْ شَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ فِي الْمِصْرِ أَنْ يُوفِيَهُ إلَى مَنْزِلِهِ وَالْعَقْدُ فِي مِصْرَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ جَوَانِبِ الْمِصْرِ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ.
وَلَوْ اشْتَرَى طَعَامًا بِطَعَامٍ مِنْ جِنْسِهِ وَشَرْطَ أَحَدُهُمَا التَّوْفِيَةَ إلَى مَنْزِلِهِ لَمْ يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ كَيْفَمَا كَانَ، وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَكَانِ كَذَا فَسَلَّمَهُ فِي غَيْرِهِ وَدَفَعَ الْكِرَاءَ إلَى الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ صَارَ قَابِضًا، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْكِرَاءِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ إلَيْهِ لِيُسَلِّمَهُ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ لِأَنَّهُ حَقُّهُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ حَتَّى يَقْبِضَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ فِيهِ) أَمَّا إذَا كَانَ مِنْ النُّقُودِ فَلِأَنَّهُ افْتِرَاقٌ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا»، فَلِأَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ، إذْ الْإِسْلَامُ وَالْإِسْلَافُ يُنْبِئَانِ عَنْ التَّعْجِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الِاسْمِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ لِيَتَقَلَّبَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِيهِ فَيَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إذَا كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْض لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَكَذَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لَا يَصِحُّ السَّلَمُ حَتَّى يَقْبِضَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ) بَدَنًا تَحْقِيقُهُ أَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ (أَمَّا إذَا كَانَ) رَأْسُ الْمَالِ (مِنْ النُّقُودِ فَلِأَنَّهُ) لَوْ لَمْ يَقْبِضْ (افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ) لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ فَلَا يَقَعُ الْعَقْدُ إلَّا عَلَى دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ فَيَقَعُ بِدَفْعِ الْعَيْنِ الْمُقَاصَّةِ عَنْهُ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» أَيْ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ يُجِيزُ التَّأْخِيرَ وَيَقول: إذَا لَمْ يَشْرُطْ التَّأْجِيلَ لَا يُخَرِّجَهُ إلَى الدَّيْنِ عُرْفًا، وَبِقولنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ (وَإِنْ كَانَ عَيْنًا) فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَشْتَرِطُ تَعْجِيلُهُ لِأَنَّ عَدَمَ تَسْلِيمِهِ لَا يُؤَدِّي إلَى بَيْعِ دَيْنٍ بِدَيْنٍ بَلْ بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُشْتَرَطُ إعْمَالًا لِمُقْتَضَى الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِسْلَافَ فِي كَذَا يُنْبِئُ عَنْ تَعْجِيلِ الْمُسَلِّمِ دُونَ الْآخِرِ لِأَنَّ وَضَعَهَا فِي الْأَصْلِ لِأَخْذِ عَاجِلٍ بِآجِلٍ وَالشَّرْعُ قَرَّرَهُ كَذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي اُعْتُبِرَ فِيهَا لَوْ فَرَضْنَا فَرْضًا أَنَّهَا صَارَتْ إعْلَامًا فَأَصْلُ الْوَضْعِ كَافٍ بِاعْتِبَارِ مَا اعْتَبَرَ فِي مَعْنَاهَا مِنْ الْأَحْكَامِ فَلَزِمَ التَّعْجِيلُ (وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِهِ لِيَتَقَلَّبَ فِيهِ الْمُسْلَمُ) إلَيْهِ إذْ الْفَرْضُ إفْلَاسُهُ وَحَاجَتُهُ إلَى الْعَقْدِ لِإِفْلَاسِهِ فَيَتَقَلَّبُ فِيهِ لِيَقْدِرَ عَلَى تَحْصِيلِ الْمُسْلَمِ فِيهِ إلَى الْأَجَلِ (وَ) لِهَذَا: أَيْ لِاشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ (قُلْنَا: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إذَا كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ) الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ، وَهَذَا عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ خَرَجَ الْبَدَلُ عَنْ مِلْكِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْآخَرِ، وَعَلَى قولهِمَا هُوَ مِلْكٌ مُتَزَلْزِلٌ فَإِنَّهُ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَفْسَخَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَلَا يُتِمَّ الْقَبْضُ لِأَنَّ تَمَامَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَمَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَقْبُوضِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا ظَهَرَ مُسْتَحَقًّا لَمْ يَمْنَعْ اسْتِحْقَاقُهُ مِنْ تَمَامِ قَبْضِهِ لِجَوَازِ إجَازَةِ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ أَجَازَ قَبْضَهُ صَحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ يَمْنَعُ الْمِلْكَ لِأَنَّ مَنْعَهُ الْمِلْكَ لَيْسَ بِقَضِيَّةِ السَّبَبِ، بَلْ السَّبَبُ وُجِدَ مُطْلَقًا لَا مَانِعَ فِيهِ سِوَى تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَجَازَ أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ الْغَيْرُ، فَإِذَا أَجَازَ اُلْتُحِقَتْ الْإِجَارَةُ بِحَالَةِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنَّ عَدَمَ الْمِلْكِ قَضِيَّةُ السَّبَبِ نَفْسِهِ وَيَجْعَلُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِشَرْطِ سُقُوطِ الْخِيَارِ وَكَانَ تَأْثِيرُهُ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ عَدَمِ الْقَبْضِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْإِبْطَالِ مِنْ عَدَمِ الْقَبْضِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ فَلَا حُكْمَ أَصْلًا وَهُوَ الْمِلْكُ فَلَا قَبْضَ، وَلِذَا قُلْنَا إنَّ إعْتَاقَ الْمُشْتَرِي لَا يَصِحُّ وَلَا يَتَوَقَّفُ إذَا كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ وَإِعْتَاقُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْفُضُولِيِّ يَتَوَقَّفُ.
(وَكَذَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ) أَيْ فِي السَّلَمِ (خِيَارُ رُؤْيَةٍ) بِالْإِجْمَاعِ (لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ) إذْ فَائِدَةُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ رَدُّ الْمَبِيعِ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا رُدَّ الْمَقْبُوضُ عَادَ دَيْنًا كَمَا كَانَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَيْنَ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ قَدْ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ بَلْ يَعُودُ حَقُّهُ فِي مِثْلِهِ، وَلِأَنَّ إعْلَامَ الدَّيْنِ لَيْسَ إلَّا بِذِكْرِ الصِّفَةِ فَقَامَ ذِكْرُ الصِّفَةِ مَقَامَ الْعَيْنِ فَلَا يَتَصَوَّرُ خِيَارُ رُؤْيَةٍ، ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي.
وَلَا يُشْكَلُ بِالِاسْتِصْنَاعِ فَإِنَّهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الصَّانِعِ وَيَجْرِي فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ: يَعْنِي إذَا رَدَّ مَا يَأْتِي بِهِ يَنْفَسِخُ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَبِيعَ فِيهِ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الصَّانِعِ بَلْ الْعَيْنُ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي رَأْسِ الْمَالِ فَصَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ، وَهَذَا إذَا كَانَ عَيْنًا مِثْلِيًّا أَوْ قِيَمِيًّا (بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ) فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ (لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ) لِأَنَّ تَمَامَهُ بِتَمَامِ الصَّفْقَةِ وَتَمَامُهُمَا بِتَمَامِ الرِّضَا وَهُوَ تَمَامُ وَقْتِ الْعَقْدِ.

متن الهداية:
وَلَوْ أُسْقِطَ خِيَارُ الشَّرْطِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَرَأْسُ الْمَالِ قَائِمٌ جَازَ خِلَافًا لَزُفَرَ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ.
الشرح:
قولهُ: (وَلَوْ أُسْقِطَ خِيَارُ الشَّرْطِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَرَأْسُ مَالِ السَّلَمِ قَائِمٌ جَازَ) السَّلَمُ (خِلَافًا لَزُفَرَ) وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقِيَامِ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُمَا لَوْ أَسْقَطَاهُ بَعْدَ إنْفَاقِهِ أَوْ اسْتِهْلَاكِهِ لَا يَعُودُ صَحِيحًا اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ بِالْإِهْلَاكِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَم إلَيْهِ، فَلَوْ صَحَّ كَانَ بِرَأْسِ مَالٍ هُوَ دَيْنٌ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَلِأَنَّهُ الْآنَ فِي مَعْنَى الِابْتِدَاءِ، إذْ قَبْلَ الْإِسْقَاطِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَقْدِ وُجُودٌ شَرْعًا، وَقول الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ كَقول زُفَرَ (وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ) فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ ثُمَّ أَسْقَطَ الْأَجَلَ قَبْلَ حُلُولِهِ يَنْقَلِبُ جَائِزًا عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمْ.

متن الهداية:
(وَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ جَمَعُوهَا فِي قولهِمْ إعْلَامُ رَأْسِ الْمَالِ وَتَعْجِيلُهُ وَإِعْلَامُ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَتَأْجِيلُهُ وَبَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ مِائَتِي دِرْهَمٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ مِائَةٌ مِنْهَا دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَمِائَةٌ نَقْدٌ فَالسَّلَمُ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ بَاطِلٌ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ وَيَجُوزُ فِي حِصَّةِ النَّقْدِ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ وَلَا يَشِيعُ الْفَسَادَ لِأَنَّ الْفَسَادَ طَارِئٌ، إذْ السَّلَمُ وَقَعَ صَحِيحًا، وَلِهَذَا لَوْ نَقَدَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ إلَّا أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ لِمَا بَيَّنَّا، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فَيَنْعَقِدُ صَحِيحًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ جَمَعُوهَا إلَى آخِرِهِ) فَإِعْلَامُ رَأْسِ الْمَالِ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَتَعْجِيلِهِ تَتِمُّ خَمْسَةٌ، وَمِنْ صِفَتِهِ أَنْ يَذْكُرَ مِنْ النَّقْدِ الْفُلَانِيِّ إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةُ الْمَالِيَّةِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الرَّوَاجِ كَقولنَا عَدْلِيَّةً أَوْ غِطْرِيفِيَّةً، فَإِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ وَتَسَاوَتْ رَوَاجًا يُعْطِيهِ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ، وَلَوْ تَفَاوَتَتْ رَوَاجًا انْصَرَفَ إلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَيَنْبَغِي فِي دِيَارِنَا إذَا سَمَّى مُؤَيِّدَيْهِ يُعْطِيهِ الْأَشْرَفِيَّةَ وَالْجَقْمَقِيَةَ لِتَعَارُفِ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ مُؤَيِّدِيهِ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي الْمَالِيَّةِ وَالرَّوَاجِ وَإِعْلَامِ الْمُسْلَمِ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى مِثْلِهَا خَلَا التَّعْجِيلَ وَتَأْجِيلُهُ وَبَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ يَتِمُّ أَحَدَ عَشَرَ، وَأَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ عَدَمَ الِانْقِطَاعِ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ بِالْفِعْلِ فِي الْحَالِ لَيْسَ هُوَ شَرْطًا عِنْدَنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ اتَّفَقَ عَجْزُهُ عِنْدَ الْحُلُولِ وَإِفْلَاسُهُ لَا يَبْطُلُ السَّلَمُ وَقَدْ بَقِيَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَلَا يَجُوزُ فِي النُّقُودِ وَأَنْ لَا يَكُونَ حَيَوَانًا، وَانْتِقَادُ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ نَقْدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَأَنْ لَا يَشْمَلَ الْبَدَلَيْنِ إحْدَى عِلَّتِي الرِّبَا وَعَدَمُ الْخِيَارِ، فَظَهَرَ أَنَّ قولهُ وَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ لَمْ يَتِمَّ.
ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي السَّلَمِ أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ مِائَتَيْنِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ (مِنْهَا مِائَةٌ دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَنَقَدَهُ مِائَةٌ أَنَّ السَّلَمَ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ بَاطِلٌ لِفَوَاتِ قَبْضُهُ وَلَا يَشِيعُ الْفَسَادُ) فِي الْكُلِّ خِلَافًا لَزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَجْهُ قولهِ أَنَّهُ فَسَادٌ قَوِيٌّ لِتَمَكُّنِهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ.
وَأَيْضًا فَقَدْ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي صِحَّةِ الدَّيْنِ شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِي صِحَّةِ النَّقْدِ فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ.
وَلَنَا أَنَّ الْفَسَادَ طَارِئٌ.
فَلَا يَشِيعُ فِي غَيْرِ مَحِلِّ الْمُفْسِدِ، أَمَّا إنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى مِائَتَيْنِ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ مِائَتَيْنِ فِي كَذَا ثُمَّ جَعَلَ إحْدَاهُمَا الدَّيْنَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إنْ أَضَافَ إلَى الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ جَمِيعًا بِأَنْ قَالَ أَسْلَمْتُ مِائَةَ الدَّيْنِ وَهَذِهِ الْمِائَةُ فِي كَذَا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ قِيلَ يَفْسُدُ فِي الْكُلِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَوَابَ فِيهِمَا عَدَمُ الْفَسَادِ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالدَّيْنِ، وَلَوْ قَيَّدَ بِهِ بِدَلِيلِ: مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ لَا يَبْطُلُ إلَّا إذَا كَانَا يَعْلَمَانِ عَدَمَ الدَّيْنِ فَيَفْسُدُ لِأَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُمَا حِينَئِذٍ هَازِلَانِ بِالْبَيْعِ حَيْثُ عَقَدَا بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ الْمِائَةُ عَلَى ثَالِثٍ فَإِنَّهُ يَشِيعُ الْفَسَادُ، وَلِذَا قَيَّدَ الْمُصَنِّفُ كَوْنَ الْمِائَةِ دَيْنًا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمِائَةَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَيْسَتْ مَالًا فِي حَقِّهِمَا، وَحِينَ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِالدَّيْنِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَسَادُ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ ذَلِكَ، بَلْ بِالِافْتِرَاقِ بِلَا قَبْضِ تِلْكَ الْمِائَةِ، وَلِهَذَا لَوْ نَقَضَ الْمِائَةَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ السَّلَمُ وَحِينَئِذٍ لَمْ يَلْزَمْ قولهُ جَعَلَ الْقَبُولَ فِي الْفَاسِدِ شَرْطًا إلَى آخِرِهِ إذْ لَمْ يَلْزَمْ الْفَسَادُ بِالْإِضَافَةِ لَفْظًا إلَى الدَّيْنِ وَكَانَ الْفَسَادُ طَارِئًا بِلَا شُبْهَةَ.
وَقَالَ فِي الْمَنْظُومَةِ:
إنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَوْعَيْنِ نَقَدَ ** هَذَا وَدَيْنُ ذَاكَ فَالْكُلُّ فَسَدَ

إنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ ذَا وَقِسْطَ ذَا ** وَالْبُرُّ فِي الشَّعِيرِ وَالزَّيْتُ كَذَا

فَاسْتُشْكِلَتْ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَقِيلَ: إنَّمَا قَيَّدَ بِالنَّوْعَيْنِ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يَتَعَدَّى الْفَسَادُ كَمَا ذَكَر فِي الْهِدَايَةِ.
وَاسْتَشْكَلَهُ صَاحِبُ الْحَوَاشِي عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ عِنْدَهُ إذَا وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى شَيْئَيْنِ وَفَسَدَ فِي أَحَدِهِمَا يُفْسِدُ فِي الْآخَرِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَبُولُ الْفَاسِدِ شَرْطًا إلَى آخِرِهِ، قَالَ: إلَّا أَنَّ هَذَا فِي الْفَسَادِ الْمُقَارَنِ الَّذِي تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لَا فِي الطَّارِئِ، وَهَذَا طَارِئٌ لِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ، أَمَّا الْعَقْدُ فِي نَفْسِهِ فَصَحِيحٌ.
وَاسْتَشْكَلَهُ الشَّيْخُ حَافِظُ الدِّينِ فِي الْمُصَفَّى بِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَفْسُدَ فِي النَّقْدِ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَوْعَيْنِ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَعْرِفَةَ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطٌ عِنْدَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي قَدَّمَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى اشْتِرَاطِهِ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ، فَإِذَا قُوبِلَ بِشَيْئَيْنِ كَانَ الِانْقِسَامُ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ انْتَهَى.
وَهُوَ جَيِّدٌ مَا فَرَّعَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى اشْتِرَاطِ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ إلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى تَقْيِيدِ الْمَنْظُومَةِ بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا دَيْنًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَيْنَيْنِ فَسَدَ فِيهَا لِذَلِكَ أَيْضًا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ.
الشَّرْحُ:
(وَقولهُ وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَلَا الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ: أَمَّا الْأَوَّلُ) وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ فَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ التَّصَرُّفُ قَبْلَ قَبْضِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّ الشَّرْعِ وَهُوَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ شَرْعًا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ (وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ (فَإِنَّهُ مَبِيعٌ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلِيلِ فَلَا تَجُوزُ هِبَتُهُ وَلَا الِاسْتِبْدَالُ بِهِ، أَمَّا لَوْ دَفَعَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مَا هُوَ أَرْدَأَ مِنْ الْمَشْرُوطِ فَقَبِلَهُ رَبُّ السَّلَمِ أَوْ أَجْوَدَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الِاسْتِبْدَالِ فَإِنَّهُ جِنْسُ حَقِّهِ فَهُوَ كَتَرْكِ بَعْضِ حَقِّهِ وَإِسْقَاطُهُ فِي حَقِّ بَابِ السَّلَمِ وَمِنْ جِنْسِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَقول الْقُدُورِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ.

متن الهداية:
(وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَالتَّوْلِيَةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ) لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَ) لَا (التَّوْلِيَةُ) مَعَ دُخُولِهِمَا فِي عُمُومِ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ لِقُرْبِ وُقُوعِهِمَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمُرَابَحَةِ وَالْوَضِيعَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ، وَفِي الْوَضِيعَةِ إضْرَارٌ بِرَبِّ السَّلَمِ فَيُبْعِدُ وُجُودُهُمَا، بِخِلَافِ أَخْذِهِ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ فَإِنَّهُ قَرِيبٌ، وَالشَّرِكَةُ هِيَ مَعْنَى أَخْذُ بَعْضِهِ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، وَقِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ قول الْبَعْضِ إنَّ التَّوْلِيَةَ تَجُوزُ عِنْدَهُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَالسَّلَمِ.

متن الهداية:
(فَإِنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِرَأْسِ الْمَالِ شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَهُ كُلَّهُ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَكَ أَوْ رَأْسَ مَالِكَ» أَيْ عِنْدَ الْفَسْخِ، وَلِأَنَّهُ أَخَذَ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ فَلَا يَحِلُّ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلَ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَبِيعًا لِسُقُوطِهِ فَجَعَلَ رَأْسَ الْمَالِ مَبِيعًا لِأَنَّهُ دَيْنٌ مِثْلُهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الِابْتِدَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ) أَيْ لِرَبِّ السَّلَمِ (أَنْ يَشْتَرِي مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِرَأْسِ الْمَالِ شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَهُ كُلَّهُ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَك أَوْ رَأْسَ مَالِكَ») أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مَعْنَاهُ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَأْخُذَ إلَّا هُوَ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَقَالَ: لَا أَعْرِفَهُ مَرْفُوعًا إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَعِيدِ الْجَوْهَرِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الدِّرْهَمِيِّ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ وَقَالَ: اللَّفْظُ لِلدِّرْهَمِيِّ.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ: فَلَا يَأْخُذُ إلَّا مَا أَسْلَمَ فِيهِ أَوْ رَأْسَ مَالِهِ، وَهَذَا هُوَ حَدِيثُ الْمُصَنِّفِ وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَالتِّرْمِذِيُّ يُحَسِّنُ حَدِيثَهُ فَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَحَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ.
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَال: «إذَا أَسْلَفْت فِي شَيْءٍ فَلَا تَأْخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِكَ أَوْ الَّذِي أَسْلَفْتَ فِيهِ».
وَأَسْنَدَ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ نَحْوَهُ مِنْ قولهِ فَقولهُ لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَك: يَعْنِي حَالَ قِيَامِ الْعَقْدِ أَوْ رَأْسَ مَالِكَ: أَيْ عِنْدَ الْفَسْخِ.
فَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ كَالْمَبِيعِ فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُهُ أَخَذَ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ (بِـ) سَبَبِ (أَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ) غَيْرِ الْمُتَعَاقِدِينَ وَالشَّرْعُ ثَالِثٌ، وَعَرَفَ أَنَّ صِحَّتهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْمَبِيعِ إلَى الْقَبْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ إقَالَةِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ تَبْطُلُ الْإِقَالَةُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ هُنَا لِأَنَّ بِالْإِقَالَةِ يَسْقُطُ الْمَبِيعُ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَا عَيْنٌ فَيَتَلَاشَى فَلَا يَعُودُ لَكِنَّهَا قَدْ صَحَّتْ فَيَلْزَمُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ رَأْسَ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ دَيْنٌ مِثْلَ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَجَعْلُ الدَّيْنَ مَبِيعًا لَيْسَ مُحَالًا.
وَأُورِدَ عَلَيْهِ: لَوْ كَانَتْ بَيْعًا جَدِيدًا لَكَانَتْ بَيْعُ سَلَمٍ لِأَنَّهَا إقَالَةُ بَيْعِ سَلَمٍ فَكَانَ يَلْزَمُ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ الْإِقَالَةِ فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَلْزَمْ بِالْإِجْمَاعِ، فَأَجَابَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ (بِأَنَّهُ) يَعْنِي عَقْدَ الْإِقَالَةِ (لَيْسَ فِي حُكْمِ الِابْتِدَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ لُزُومَ قَبْضِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لِئَلَّا يَفْتَرِقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ وَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَسْخِ بِالْإِقَالَةِ.
وَيُمْكِنُ حَمْلُ جَوَابِ الْمُصَنِّفِ عَلَى هَذَا بِتَكَلُّفٍ يَسِيرٍ.
وَحَاصِلُ جَوَابِ صَاحِبِ الْإِيضَاحِ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ جُعِلَ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ وَالْقَبْضُ لَيْسَ شَرْطًا فِيهِ فَلَيْسَ شَرْطًا لَهُ وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ؛ أَيْ فِي مَنْعِ الِاسْتِبْدَالِ بِرَأْسِ مَال السَّلَمِ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بَعْدَ إقَالَةِ السَّلَمِ.
فَعِنْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا شَاءَ وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّهُ بِالْإِقَالَةِ بَطَلَ السَّلَمُ وَصَارَ رَأْسَ الْمَالِ دَيْنًا عِنْدَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَيَسْتَبْدِلُ بِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ.
قَالَ: (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا) مِنْ الْأَثَرِ وَالْمَعْنَى فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ بِالْأَثَرِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ قَضَاءٌ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً، وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ ثُمَّ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ فَاكْتَالَهُ لَهُ ثُمَّ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ جَازَ) لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ الصَّفْقَتَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَيْلِ مَرَّتَيْنِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ، وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا مَرَّ وَالسَّلَمُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا لَكِنْ قَبْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَاحِقٌ وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً.
وَإِنْ جَعَلَ عَيْنَهُ فِي حَقٍّ حُكْمٌ خَاصٌّ وَهُوَ حُرْمَةُ الِاسْتِبْدَالِ فَيَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَمًا وَكَانَ قَرْضًا فَأَمَرَهُ بِقَبْضِ الْكُرِّ جَازَ لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ فَكَانَ الْمَرْدُودُ عَيْنَ الْمَأْخُوذِ مُطْلَقًا حُكْمًا فَلَا تَجْتَمِعُ الصَّفْقَتَانِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ) وَهُوَ سِتُّونَ قَفِيزًا أَوْ أَرْبَعُونَ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، وَالْقَفِيزُ ثَمَانِيَةُ مَكَاكِيكُ، وَالْمَكُّوكُ صَاعٌ وَنِصْفُ (فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ أَنْ يَقْبِضَهُ قَضَاءٌ) عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَاقْتَضَاهُ رَبُّ السَّلَمِ بِحَقِّهِ بِأَنْ اكْتَالَهُ مَرَّةً وَحَازَهُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضِيًا حَقَّهُ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ يَهْلَكُ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَيُطَالِبُهُ رَبُّ السَّلَمِ بِحَقِّهِ (وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ) أَيْ لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ (ثُمَّ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ فَاكْتَالَهُ لَهُ) أَيْ رَبُّ السَّلَمِ لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ (ثُمَّ اكْتَالَهُ) مَرَّةً أُخْرَى (لِنَفْسِهِ) صَارَ مُقْتَضِيًا مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ وَهَذَا (لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ صَفْقَتَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَيْلِ مَرَّتَيْنِ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِي فِيهِ صَاعَانِ) صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي (وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا مَرَّ) فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِي بَابَ الْمُرَابَحَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ اجْتِمَاعُ الصَّفْقَتَيْنِ.
وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ مَا سُمِّيَ فِيهِ وَهُوَ الْكُرُّ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْكَيْلِ فَكَانَ الْكَيْلُ مُعَيِّنًا لِلْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَهَذَانِ عَقْدَانِ وَمُشْتَرِيَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْفِيرِ مُقْتَضَى كُلِّ عَقْدٍ عَلَيْهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّانِيَ لَوْ كَالَهُ فَزَادَ لَمْ تَطِبْ لَهُ الزِّيَادَةُ وَوَجَبَ رَدُّهَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي كَالَهُ لِنَفْسِهِ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي فَقَبَضَهُ الثَّانِي لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكِيلَهُ إقَامَةً لِحَقِّ الْعَقْدِ الثَّانِي وَالصَّفْقَتَانِ شِرَاءُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مِنْ بَائِعِهِ الْكُرَّ وَالصَّفْقَةُ التَّقْدِيرِيَّةُ الَّتِي اُعْتُبِرَتْ بَيْنَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَ قَبْضِهِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ يَصِيرُ بَائِعًا مِنْ رَبِّ السَّلَمِ مَا اشْتَرَاهُ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ لَيْسَ عَيْنُ حَقِّهِ فَإِنَّهُ دَيْنٌ، وَهَذَا عَيْنُ قَاصَصَهُ بِهِ، وَقَدْ أَخَذُوا فِي صِحَّةِ الْأَمْرِ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ ثُمَّ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ.
وَعِنْدِي لَيْسَ هَذَا بِشَرْطٍ، بَلْ الشَّرْطُ أَنْ يَكِيلَهُ مَرَّتَيْنِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهُ اقْبِضْ الْكُرَّ الَّذِي اشْتَرَيْتُهُ مِنْ فُلَانٍ عَنْ حَقِّكَ فَذَهَبَ فَاكْتَالَهُ ثُمَّ أَعَادَ كَيْلَهُ صَارَ قَابِضًا، لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ بِالْكَيْلِ الْأَوَّلِ بَلْ الثَّانِي، فَلَمَّا قَالَ لَهُ اقْبِضْهُ عَنْ حَقِّكَ وَالْمُخَاطَبُ يَعْلَمُ طَرِيقَ صَيْرُورَتِهِ قَابِضًا لِنَفْسِهِ أَنْ يَكِيلَهُ مَرَّةً لِلْقَبْضِ عَنْ الْآمِرِ وَثَانِيًا لِيَصِيرَ هُوَ قَابِضًا لِنَفْسِهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ صَارَ قَابِضًا حَقَّهُ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ اذْهَبْ فَافْعَلْ مَا تَصِيرُ بِهِ قَابِضًا.
وَلَفْظُ الْجَامِعِ يُفِيدُ مَا قُلْنَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَزِدْ فِيهِ عَلَى قول فَاكْتَالَهُ ثُمَّ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ جَازَ.
وَقولهُ (وَالسَّلَمُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا إلَى آخِرِهِ) جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ بَيْعُ رَبِّ السَّلَمِ مَعَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ كَانَ سَابِقًا عَلَى شِرَاءِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مِنْ بَائِعِهِ فَلَا يَكُونُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بَائِعًا بَعْد الشِّرَاءِ مَا اشْتَرَاهُ فَلَمْ تَجْتَمِعْ الصَّفْقَتَانِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ.
فَأَجَابَ بِقولهِ السَّلَمُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا عَلَى شِرَاءِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مِنْ بَائِعِهِ (لَكِنْ قَبْضُ) رَبِّ السَّلَمِ (الْمُسْلَمِ فِيهِ لَاحِقٌ) لِشِرَائِهِ مِنْ بَائِعِهِ (وَأَنَّهُ) أَيْ قَبْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ (بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً) وَاعْتِبَارُهُ عَيْنُهُ فِي حَقِّ حُكْمٍ خَاصٍّ وَهُوَ صِحَّةُ قَبْضِهِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ كَيْ لَا يَلْزَمُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَهُ إيَّاهُ مُطْلَقًا فَأَخْذُ الْعَيْنِ عَنْهُ فِي حُكْمِ عَقْدٍ جَدِيدٍ فَيَتَحَقَّقُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بَعْدَ شِرَائِهِ مِنْ بَائِعِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ مَا قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: لَوْ أَسْلَمَ مِائَةٌ فِي كُرٍّ ثُمَّ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ كُرُّ حِنْطَةٍ بِمِائَتِي دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ فَقَبَضَهُ فَلَمَّا حَلَّ السَّلَمُ أَعْطَاهُ ذَلِكَ الْكُرَّ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ.
يُرِيدُ أَنَّ رَبَّ السَّلَمِ اشْتَرَى مَا بَاعَهُ وَهُوَ الْكَرُّ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ بِأَقَلِّ مِمَّا بَاعَهُ.
وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذَا جُعِلَا عِنْدَ الْقَبْضِ كَأَنَّهُمَا جَدَّدَا عَقْدًا.
وَمِثْلَ هَذَا فِيمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي مَوْزُونٍ مُعَيَّنٍ وَاشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مَوْزُونًا كَذَلِكَ إلَى آخِرِهِ لَا يَجُوزُ قَبْضُ رَبِّ السَّلَمِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ حِنْطَةٌ مُجَازَفَةً أَوْ مَلَكهَا بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ وَأَوْفَاهُ رَبُّ السَّلَمِ فَكَالَهُ مَرَّةً، وَتَجُوزُ بِهِ يُكْتَفَى بِكَيْلٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إلَّا عَقْدٌ وَاحِدٌ بِشَرْطِ الْكَيْلِ وَهُوَ السَّلَمُ.
وَلَوْ اشْتَرَى الْمَعْدُودَ عَدًّا وَالسَّلَمُ فِي مَعْدُودٍ فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي وُجُوبِ إعَادَةِ الْعَدِّ فِي بَيْعِ الْمَعْدُودِ بَعْدَ شِرَائِهِ عَدًّا هَذَا (فَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَلَمًا) وَلَكِنْ أَقْرَضَهُ (فَأَمَرَهُ بِقَبْضِ الْكُرِّ) وَلَمْ يَقُلْ اقْبِضْهُ لِي ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ فَقَبَضَهُ بِأَنْ اكْتَالَهُ مَرَّةً (جَازَ لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ وَكَانَ الْمَرْدُودُ عَيْنُ الْمَأْخُوذِ مُطْلَقًا فَلَمْ تَجْتَمِعْ صَفْقَتَانِ) فَلَمْ يَجِبْ الْكَيْلَانِ لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ فِي الْقَرْضِ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَزِمَ تَمَلُّكِ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً أَوْ تَفَرُّقٌ بِلَا قَبْضٍ فِيهِ وَهُوَ رِبًا، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِي الْقَرْضِ لِأَنَّهُ بَيْعٌ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً، وَكَذَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ الْأَوَّلُ سَلَمًا فَلَمَّا حَلَّ اقْتَرَضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ مِنْ الْمُقْرِضِ فَفَعَلَ جَازَ لَمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ الْقَرْضِ عَقْدُ مُسَاهَلَةٍ لَا يُوجِبُ الْكَيْلَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً، وَلِهَذَا لَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْ آخَرَ حِنْطَةً عَلَى أَنَّهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةً جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا قَبْلَ الْكَيْلِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَأَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ أَنْ يَكِيلَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِي غَرَائِرِ رَبِّ السَّلَمِ فَفَعَلَ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً) لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْكَيْلِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مِلْكَ الْآمِرِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ دُونَ الْعَيْنِ فَصَارَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُسْتَعِيرًا لِلْغَرَائِرِ مِنْهُ وَقَدْ جَعَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ فِيهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمَ دَيْنٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ كِيسًا لِيَزِنهَا الْمَدْيُونُ فِيهِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا.
وَلَوْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ مُشْتَرَاةٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا صَارَ قَابِضًا لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ صَحَّ حَيْثُ صَادَفَ مِلْكَهُ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالْبَيْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ بِالطَّحْنِ كَانَ الطَّحِينُ فِي السَّلَمِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَفِي الشِّرَاءِ لِلْمُشْتَرِي لِصِحَّةِ الْأَمْرِ، وَكَذَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّهُ فِي الْبَحْرِ فِي السَّلَمِ يَهْلَكُ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَفِي الشِّرَاءِ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي، وَيَتَقَرَّرُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَلِهَذَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ الْكَيْلِ فِي الشِّرَاءِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْكَيْلِ وَالْقَبْضِ بِالْوُقُوعِ فِي غَرَائِرِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ أَمَرَهُ فِي الشِّرَاءِ أَنْ يَكِيلَهُ فِي غَرَائِرِ الْبَائِعِ فَفَعَلَ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا لِأَنَّهُ اسْتَعَارَ غَرَائِرَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهَا فَلَا تَصِيرُ الْغَرَائِرُ فِي يَدِهِ، فَكَذَا مَا يَقَعُ فِيهَا، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ وَيَعْزِلَهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ بَيْتِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْبَيْتَ بِنَوَاحِيهِ فِي يَدِهِ فَلَمْ يَصِرْ الْمُشْتَرِي قَابِضًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَأَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ أَنْ يَكِيلَهُ فِي غَرَائِرِ رَبِّ السَّلَمِ) وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْإِضْمَارِ فِيهِمَا لَكِنَّهُ أَظْهَرَهُ لِدَفْعِ الِالْتِبَاسِ (فَفَعَلَ وَهُوَ) أَيْ رَبُّ السَّلَمِ (غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ قَضَاءٌ) حَتَّى لَوْ هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَالتَّقْيِيدُ بِغَيْبَتِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَالَ فِيهَا وَرَبُّ السَّلَمِ حَاضِرٌ يَصِيرُ قَابِضًا بِالِاتِّفَاقِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْغَرَائِرُ لَهُ أَوْ لِلْبَائِعِ (لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْكَيْلِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مِلْكَ الْآمِرِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ لَا الْعَيْنِ فَصَارَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُسْتَعِيرُ الْغَرَائِرَ مِنْهُ جَاعِلًا مِلْكَ نَفْسِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمَ فَدَفَعَ) الدَّائِنُ إلَيْهِ كِيسًا (لِيَزِنَهَا الْمَدْيُونُ فِيهِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا) هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي غَرَائِرِ رَبِّ السَّلَمِ طَعَامٌ بِلَا تَرَدُّدٍ، فَإِنْ كَانَ قِيلَ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِمَا قَرَّرْنَا أَنَّ أَمْرَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ أَمَرَهُ بِخَلْطِ طَعَامِ السَّلَمِ بِطَعَامِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ مُعْتَبَرٌ فَيَصِير بِهِ قَابِضًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَيَذْكُرُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ فِيمَنْ دَفَعَ نِصْفَ دِرْهَمٍ إلَى صَائِغٍ وَقَالَ زِدْ مِنْ عِنْدِك نِصْفَ دِرْهَمٍ وَصُغْ لِي بِهِمَا خَاتَمًا فَفَعَلَ جَازَ وَصَارَ بِالْخَلْطِ قَابِضًا (وَلَوْ كَانَتْ مُشْتَرَاةٌ) غَيْرُ مُسَلَّمٌ فِيهَا (وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا) أَيْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي غَرَائِرَهُ لِلْبَائِعِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهَا فِيهَا فَفَعَلَ بِغَيْبَتِهِ (وَصَارَ قَابِضًا لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ صَحَّ) هُنَا (لِأَنَّهُ مَلَكَ عَيْنَ الْحِنْطَةِ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ فَصَادَفَ أَمْرُهُ مِلْكَهُ) وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ أَمَرَهُ بِطَحْنِ الْحِنْطَةِ الْمُسْلَمِ فِيهَا فَطَحَنَهَا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ كَانَ الدَّقِيقُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ، فَلَوْ أَخَذَ رَبُّ السَّلَمِ الدَّقِيقَ كَانَ حَرَامًا لِأَنَّهُ اسْتِبْدَالٌ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَلَوْ كَانَتْ مُشْتَرَاةٌ فَأَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَنْ يَطْحَنَهَا فَطَحَنَهَا كَانَتْ لِلْمُشْتَرِي، فَلَوْ هَلَكَ الدَّقِيقُ فِي الْأَوَّلِ هَلَكَ مِنْ مِلْكِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَيَعُودُ دَيْنُ رَبِّ السَّلَمِ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ، وَلَوْ هَلَكَ فِي الثَّانِي هَلَكَ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَتَقَرَّرَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ (إذَا أَمَرَ) رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ (أَنْ يَصُبَّهُ فِي الْبَحْرِ فَفَعَلَ كَانَ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ) وَلَوْ أَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِهِ كَانَ قَابِضًا فَيَهْلَكُ (مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا وَلِهَذَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ الْكَيْلِ) الْوَاحِدِ (فِي الشِّرَاءِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْكَيْلِ وَالْوُقُوعِ فِي غَرَائِرِ الْمُشْتَرِي) وَقولهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ لَا يُكْتَفَى إلَّا بِكَيْلَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ قَبْلَ بَابِ الرِّبَا، وَلَوْ كَانَ فِي الْبَيْعِ أَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَنْ يَكِيلَهُ فِي غَرَائِرِ الْبَائِعِ فَفَعَلَ بِغَيْبَتِهِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا (لِأَنَّهُ اسْتَعَارَ غَرَائِرَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهَا) فَلَمْ تَتِمَّ الْإِعَارَةُ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ عَقْدُ تَبَرُّعٍ لَمْ تَتِمَّ إلَّا بِالْقَبْضِ (فَلَمْ تَصِرْ الْغَرَائِرُ فِي يَدِهِ فَكَذَا مَا يَقَعُ فِيهِ) عَلَى تَأْوِيلِ الظَّرْفِ وَنَحْوِهِ (وَصَارَ كَمَا لَوْ أَمَرَ الْمُشْتَرِي) الْبَائِعُ (أَنْ يَكِيلَهُ وَيَعْزِلَهُ فِي مَكَان مِنْ بَيْتِ الْبَائِعِ) فَفَعَلَ بِغَيْبَتِهِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا.

متن الهداية:
وَلَوْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْعَيْنُ وَالْغَرَائِرُ لِلْمُشْتَرِي، إنْ بَدَأَ بِالْعَيْنِ صَارَ قَابِضًا، أَمَّا الْعَيْنُ فَلِصِحَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ وَبِمِثْلِهِ يَصِيرُ قَابِضًا، كَمَنْ اسْتَقْرَضَ حِنْطَةً وَأَمَرَهُ أَنْ يَزْرَعهَا فِي أَرْضِهِ، وَكَمَنْ دَفَعَ إلَى صَائِغٍ خَاتَمًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَهُ مِنْ عِنْدِهِ نِصْفَ دِينَارٍ، وَإِنَّ بَدَأَ بِالدَّيْنِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا، أَمَّا الدَّيْنُ فَلِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا الْعَيْنُ فَلِأَنَّهُ خَلَطَهُ بِمُلْكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ، وَهَذَا الْخَلْطُ غَيْرُ مَرْضِيٌّ بِهِ مِنْ جِهَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْبُدَاءَةَ بِالْعَيْنِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِي الْمَخْلُوطِ لِأَنَّ الْخَلْطَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ عِنْدَهُمَا.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْعَيْنُ) بِأَنْ اشْتَرَى رَبُّ السَّلَمِ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ كُرًّا مُعَيَّنًا بَعْدَ حُلُولِ السَّلَمِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَ فِي غَرَائِرِ الْمُشْتَرِي كِلَيْهِمَا فَفَعَلَ بِغَيْبَتِهِ، إنْ بَدَأَ بِالْكُرِّ الْعَيْنِ ثُمَّ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُمَا (أَمَّا الْعَيْنُ فَلِصِحَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ) لِأَنَّهُ لَاقَى مِلْكَهُ (وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ وَبِمِثْلِهِ يَصِيرُ قَابِضًا كَمَنْ اسْتَقْرَضَ حِنْطَةً) وَلَمْ يَقْبِضْهَا (ثُمَّ أَمَرَ) الْمُقْرِضَ (أَنْ يَزْرَعهَا فِي أَرْضِ الْمُسْتَقْرِضِ، وَكَمَنْ دَفَعَ إلَى صَائِغٍ خَاتَمًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ عِنْدِهِ نِصْفَ دِينَارٍ) فَفَعَلَ بِغَيْبَتِهِ لَزِمَتْهُ الزِّيَادَةُ وَتَقَرَّرَ بَدَلُهَا عَلَيْهِ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِ فِيهِمَا وَإِنْ بَدَأَ بِالدَّيْنِ فَكَالَهُ فِي الْغَرَائِرِ (لَمْ يَصِرْ قَابِضًا، أَمَّا فِي الدَّيْنِ فَلِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَمْرِ) لِمَا قُلْنَا (وَأَمَّا) فِي (الْعَيْنِ فَلِأَنَّهُ يَخْلِطُ مَالَ الْمُشْتَرِي) بِجِنْسِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ (يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ) بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.
لَا يُقَال: هَذَا الْخَلْطُ لَيْسَ بِتَعَدٍّ لِيَكُونَ بِهِ مُسْتَهْلِكًا لِأَنَّهُ بِأَمْرِهِ.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِمَنْعِ إذْنِهِ فِيهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِجَوَازِ كَوْنِ مُرَادِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعَيْنِ (وَعِنْدَهُمَا) لَمَّا لَمْ يَكُنْ اسْتِهْلَاكًا يَصِيرُ الْمُشْتَرِي (بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ) لِعَيْبِ الشَّرِكَةِ (وَإِنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِي الْمَخْلُوطِ) وَأَوْرَدَ أَنَّ صَبْغَ الصَّبَّاغِ يَتَّصِلُ بِالثَّوْبِ وَلَا يَصِيرُ مَالِكُهُ قَابِضًا بِهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ثُمَّةَ الْفِعْلُ لَا الْعَيْنُ، وَالْفِعْلُ لَا يُجَاوِزُ الْفَاعِلُ لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَبَضَهَا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ ثُمَّ تَقَايَلَا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ قَبْضِهَا، وَلَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ هَلَاكِ الْجَارِيَةِ جَازَ) لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ تَعْتَمِدُ بَقَاءَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَفِي السَّلَمِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ فَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ حَالَ بَقَائِهِ، وَإِذَا جَازَ ابْتِدَاءٌ فَأَوْلَى أَنْ يَبْقَى انْتِهَاءٌ، لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ انْفَسَخَ فِي الْجَارِيَةِ تَبَعًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا وَقَدْ عَجَزَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا (وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَقَايَلَا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ، وَلَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ الْجَارِيَةُ فَلَا يَبْقَى الْعَقْدُ بَعْدَ هَلَاكِهَا فَلَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ ابْتِدَاءً وَلَا تَبْقَى انْتِهَاءً لِانْعِدَامِ مَحِلِّهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ حَيْثُ تَصِحُّ الْإِقَالَةُ وَتَبْقَى بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ) حَاصِلُ هَذِهِ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ وَالْبَيْعِ بِالثَّمَنِ وَبَيْعُ الْمُقَايَضَةِ، فَفِي السَّلَمِ تَجُوزُ الْإِقَالَةُ قَبْلَ هَلَاكِ الْجَارِيَةِ وَبَعْدَهُ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ تَعْتَمِدُ قِيَامَ الْعَقْدِ وَهُوَ بِقِيَامِ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَقْبِضَ، فَفِي السَّلَمِ الْمَبِيعُ قَصْدًا هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ، فَهَلَاكُ الْجَارِيَةِ وَعَدَمُهُ لَا يَعْدَمُ الدَّيْنَ الْمُسْلَمَ فِيهِ فَجَازَتْ الْإِقَالَةُ إذَا مَاتَتْ قَبْلَ الْإِقَالَةِ أَوْ بَعْدَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ لِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ، وَإِذَا جَازَتْ انْفَسَخَ فِي الْجَارِيَةِ تَبَعًا فَوَجَبَ رَدُّهَا وَقَدْ عَجَزَ فَيَرُدُّ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْقَبْضِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ كَانَ فِيهِ فَصَارَ كَالْغَصْبِ، وَفِيمَا لَوْ كَانَ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مَثَلًا لَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَبْطُلُ لَوْ مَاتَتْ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ فَلَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَا تَبْقَى عَلَى الصِّحَّةِ إذَا هَلَكَتْ بَعْدَهَا، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ مُقَايَضَةً بِأَنْ دَفَعَ الْجَارِيَةَ فِي ثَوْبٍ تَبْقَى الْإِقَالَةُ بَعْدَ هَلَاكِهَا إذَا كَانَ الْعَرْضُ الْآخَرُ بَاقِيًا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَبِيعٌ مِنْ وَجْهِ (قولهِ وَمَنْ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ إلَى آخِرِهِ) الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الصِّحَّةِ، فَإِنْ خَرَجَ كَلَامُ أَحَدِهِمَا مَخْرَجَ التَّعَنُّتِ وَهُوَ أَنْ يُنْكِرَ مَا يَنْفَعُهُ كَانَ بَاطِلًا اتِّفَاقًا وَالْقول قول مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ، وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخُصُومَةِ وَهُوَ أَنْ يُنْكِرَ مَا يَضُرُّهُ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقول قول مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ أَيْضًا إذَا اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ خَصْمُهُ هُوَ الْمُنْكِرُ وَقَالَا الْقول قول الْمُنْكِرُ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ.
إذَا عُرِفَ هَذَا جِئْنَا إلَى الْمَسَائِلِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ شَرَطْتُ رَدِيئًا وَقَالَ رَبُّ السَّلَم لَمْ تَشْتَرِطْ شَيْئًا فَالْقول قول الْمُسْلَمِ إلَيْهِ) لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ الصِّحَّةَ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فِي الْعَادَةِ، وَفِي عَكْسِهِ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقول لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُنْكِرًا.
وَعِنْدَهُمَا الْقول لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
(أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ فِي كُرٍّ فَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ شَرَطْتُ لَكَ رَدِيئًا) وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ لَمْ تَشْتَرِطْ شَيْئًا فَالْقول قول الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ (لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ مُتَعَنِّتٌ) لِأَنَّهُ بِإِنْكَارِ الصِّحَّةِ مُنْكِرُ مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ (لِأَنَّهُ) عَلَى كُلِّ حَالٍ (يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فِي الْعَادَةِ) وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَقْدًا وَالْمُسْلَمُ فِيهِ نَسِيئَةً لِأَنَّ الْعُقَلَاءَ قَاطِبَةً عَلَى إعْطَاءِ هَذَا الْعَاجِلِ بِذَاكَ الْآجِلِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ يَرْبُو عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ آجِلًا لَمْ تُطَبَّقْ آرَاؤُهُمْ عَلَيْهِ، وَكَلَامُ الْمُتَعَنِّتِ مَرْدُودٌ فَيَبْقَى قول الْآخَرِ بِلَا مُعَارِضٍ.
وَأَمَّا التَّوْجِيهُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ الصِّحَّةُ إلَى آخِرِهِ فَيَخُصُّ أَبُو حَنِيفَةَ تَمْشِيَتَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحِلِّ، وَالْمُرَادُ هُنَا تَوْجِيهُ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْقول لِلْآخَرِ وَهُمَا لَا يَقولانِ إنَّ الْقول لِمُدَّعِي الصِّحَّةَ دَائِمًا لِيُعَلِّلَا هُنَا بِظُهُورِهَا فِي مُبَاشَرَةِ الْعَاقِدِ (وَفِي عَكْسِهِ) بِأَنْ ادَّعَى رَبُّ السَّلَمِ شَرْطُ الرَّدِيءِ وَأَنْكَرَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ الشَّرْطَ أَصْلًا لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ (وَقَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ يَجِبُ (أَنْ يَكُونَ الْقول لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ (لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَإِنْ كَانَ صَاحِبَهُ مُنْكِرًا) وَكَلَامُهُ خُصُومَةٌ (وَعِنْدَهُمَا الْقول لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ) وَسَيُقَرِّرُ الْمُصَنِّفُ الْوَجْهَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجَلٌ وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ بَلْ كَانَ لَهُ أَجَلٌ فَالْقول قول رَبِّ السَّلَمِ) لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ حَقًّا لَهُ وَهُوَ الْأَجَلُ، وَالْفَسَادُ لِعَدَمِ الْأَجَلِ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ لِمَكَانِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُعْتَبَرُ النَّفْعُ فِي رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ، بِخِلَافِ عَدَمِ الْوَصْفِ، وَفِي عَكْسِهِ الْقول لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ يُنْكِرُ حَقًّا لَهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْقول قولهُ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ كَرَبِّ الْمَالِ إذَا قَالَ لِلْمُضَارِبِ شَرَطْتُ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةَ وَقَالَ الْمُضَارِبُ لَا بَلْ شَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَالْقول لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقول لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ فَكَانَا مُتَّفِقِينَ عَلَى الصِّحَّةِ ظَاهِرًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فَلَا يُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فَيَبْقَى مُجَرَّدُ دَعْوَى اسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ، أَمَّا السَّلَمُ فَلَازِمٌ فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ مَنْ خَرَجَ كَلَامُهُ تَعَنُّتًا فَالْقول لِصَاحِبِهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ خَرَجَ خُصُومَةٌ وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ فَالْقول لِمُدَعِّي الصِّحَّةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لِلْمُنْكِرِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ قَالَ) الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَجَلٌ وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ فِيهِ أَجَلٌ فَالْقول قول رَبِّ السَّلَمِ أَيْ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا فِي مِقْدَارِهِ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ هُنَا تَعَنُّتٌ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا هُوَ حَقُّهُ (وَهُوَ الْأَجَلُ) لِأَنَّ الْأَجَلَ لِتَرْفِيهِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَأُورِدَ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقول لِمَنْ يَدَّعِي الْفَسَادَ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ لَمَّا كَانَ فِي الْعَادَةِ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ كَانَ إنْكَارُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ الصِّحَّةَ خُصُومَةٌ فَلَا يَكُونُ مُتَعَنِّتًا، وَهَذَا الْإِيرَادُ هُوَ وَجْهُ الْقِيَاسِ.
فَأَجَابَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ (وَالْفَسَادُ لِعَدَمِ الْأَجَلِ لَيْسَ مُتَيَقِّنًا) حَتَّى يَكُونَ إنْكَارُهُ إنْكَارُ الصِّحَّةِ دَافِعًا لِزِيَادَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِأَنَّ السَّلَمَ الْحَالَّ جَائِزٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ (فَلَا يُعْتَبَرُ النَّفْعُ فِي رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ قَطْعًا (بِخِلَافِ عَدَمِ الْوَصْفِ) كَالرَّدَاءَةِ وَنَحْوِهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ مَلْزُومٌ قَطْعًا لِلْفَسَادِ (وَفِي عَكْسِهِ) وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ الْأَجَلَ وَرَبُّ السَّلَمِ يُنْكِرُهُ (الْقول لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ يُنْكِرُ حَقًّا عَلَيْهِ) وَهُوَ زِيَادَةُ الرِّبْحِ الْكَائِنِ فِي قِيمَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى مَا دَخَلَ فِي يَدِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَصَارَ (كَرَبِّ الْمَالِ إذَا قَالَ لِلْمُضَارِبِ شَرَطْتُ لَك نِصْفَ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةَ وَقَالَ الْمُضَارِبُ بَلْ شَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَإِنَّ الْقول لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ) زِيَادَةَ (الرِّبْحِ) وَإِنْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ إنْكَارُ الصِّحَّةِ.
وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ نِصْفُ الرِّبْحِ وَزِيَادَةُ عَشَرَةً وَهِيَ غَلَطٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْقول لِلْمُضَارِبِ، وَلِأَنَّ إنْكَارَهُ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَا عَلَى هَذَا (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقول لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ) وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ (لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ فَكَانَا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى الصِّحَّةِ ظَاهِرًا) إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسَلِّم الِامْتِنَاعُ عَنْ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُفِيدُ لِتَمَامِ الْفَرْضِ الْمَقْصُودِ مِنْ مُبَاشَرَتِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجِبُ نَقْضُهُ وَرَفْعُهُ شَرْعًا، وَلِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ، فَالِاتِّفَاقُ عَلَى صُدُورِ هَذَا الْعَقْدِ اتِّفَاقٌ عَلَى صُدُورِ شَرَائِطِهِ.
فَإِنْكَارُ الْأَجَلِ إنْكَارٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ ظَاهِرًا فَلَا يُقْبَلُ، وَصَارَ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي التَّزْوِيجِ بِشُهُودٍ أَوْ بِلَا شُهُودٍ فَالْقول لِمَنْ يَدَّعِيهِ بِشُهُودٍ (بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ) لِأَنَّهُ أَيْ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ (لَيْسَ بِلَازِمٍ) وَلِهَذَا يَتَمَكَّنُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ عَزْلِهِ قَبْلَ شِرَائِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَكَذَا الْمُضَارِبُ لَهُ فَسْخُهُ، وَإِذَا كَانَ غَيْرُ لَازِمٍ ارْتَفَعَ بِاخْتِلَافِهِمَا، وَإِذَا ارْتَفَعَ بَقِيَ دَعْوَى الْمُضَارِبِ فِي اسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ فَالْقول لَهُ (أَمَّا السَّلَمُ فَـ) عَقْدٌ (لَازِمٌ) فَلَا يَرْتَفِعُ بِالِاخْتِلَافِ فَكَانَ مُدَّعِي الْفَسَادَ مُتَنَاقِضًا ظَاهِرًا كَمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ إذَا صَحَّ كَانَ شَرِكَةً، وَإِذَا فَسَدَ صَارَ إجَارَةً فَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ مُدَّعِيَ الْفَسَادِ يَدَّعِي الْإِجَارَةَ، وَمُدَّعِي الصِّحَّةِ يَدَّعِي الشَّرِكَةَ فَكَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي نَوْعِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ السَّلَمِ الْحَالِّ وَهُوَ مَا يَدَّعِيهِ مُنْكِرٌ الْأَجَلِ سَلَمٌ فَاسِدٌ لَا عَقْدٌ آخَرُ فَلِهَذَا يَحْنَثُ بِهِ فِي يَمِينِهِ لَا يُسَلَّمُ فِي شَيْءٍ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ وَاخْتَلَفَا فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ فَالْقول لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ.
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا لَوْ قَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتَ نِصْفَ الرِّبْحِ وَزِيَادَةَ عَشَرَةً فَإِنَّ الْقول لِلْمُضَارِبِ، وَلَمْ يَقُلْ اخْتَلَفَا فِي نَوْعِ الْعَقْدِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُضَارِبَ ادَّعَى الشَّرِكَةَ وَالصِّحَّةَ وَرَبُّ الْمَالِ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ بِقولهِ شَرَطْتُ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ ثُمَّ قولهُ وَزِيَادَةَ عَشَرَةً عَطْفًا عَلَيْهِ يَدَّعِي الْفَسَادَ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى آخِرِهِ فِيهِ، بِخِلَافِ قولهِ إلَّا عَشَرَةً بِالِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ إذْ صَدْرُ الْكَلَامِ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ، قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ فِي الْأُصُولِ فِيمَا إذَا زَوَّجَهُ الْفُضُولِيُّ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ فَقَالَ أَجَزْتُ نِكَاحَ هَذِهِ وَهَذِهِ يَفْسُدَانِ، لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ بِوُجُودِ الْمُغَيِّرِ فِي آخِرِهِ وَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، وَأُورِدَ أَيْضًا بِمَا إذَا قَالَ تَزَوَّجْتُكِ وَأَنَا صَغِيرٌ وَقَالَتْ بَلْ بَعْدَ بُلُوغِكَ فَالْقول لِلزَّوْجِ مَعَ أَنَّهُ يَدَّعِي فَسَادَ الْعَقْدِ: أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ بَلْ أَنْكَرَهُ حَيْثُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالِ عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إنْكَارَ الْأَجَلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا فِي أَصْلِ الْأَجَلِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ.
وَالثَّانِي فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ وَالْقول فِيهِ قول مَنْ يَدَّعِي الْأَقَلَّ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ لِلْمُدَعِّي الْأَكْثَرَ قَضَى بِهَا، وَإِنْ قَامَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُثْبِتِ الزِّيَادَةِ.
وَالثَّالِثُ فِي مُضِيِّ الْأَجَلِ إذَا قَالَ رَبُّ السَّلَمِ مَضَى الْأَجَلُ الْمُسَمَّى وَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَا فَالْقول قول الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ تَوَجُّهَ الْمُطَالَبَةِ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً قَضَى لَهُ، فَإِنْ أَقَامَاهَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْأَجَلِ، هَذَا وَالِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ عِنْدَنَا خِلَافًا لَزُفَرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا فِي بَدَلِهِ بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَةِ: يَعْنِي أَنَّهُ مَا هُوَ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْوَصْفَ جَارٍ مَجْرَى الْأَصْلِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: إذَا شَرَطَ فِي السَّلَمِ الثَّوْبَ الْجَيِّدَ فَجَاءَ بِثَوْبٍ وَادَّعَى أَنَّهُ جَيِّدٌ وَأَنْكَرَ الطَّالِبُ فَالْقَاضِي يَرَى اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الصَّنْعَةِ وَهَذَا أَحْوَطُ وَالْوَاحِدُ يَكْفِي، فَإِنْ قَالَا جَيِّدٌ أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي السَّلَمِ يَتَحَالَفَانِ اسْتِحْسَانًا وَيَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمَطْلُوبِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ بِيَمِينِ الطَّالِبِ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ، وَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قَضَى بِهَا، وَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ قَضَى بِبَيِّنَةِ رَبِّ السَّلَمِ بِسَلَمٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إمَّا عَيْنٌ أَوْ دَيْنٌ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
اتَّفَقَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ أَوْ اخْتَلَفَ فِيهِمَا، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا وَاخْتَلَفَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا غَيْرَ فَقَالَ الطَّالِبُ هَذَا الثَّوْبُ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَالَ الْآخَرُ فِي نِصْفِ كُرٍّ أَوْ فِي شَعِيرٍ أَوْ فِي الْحِنْطَةِ الرَّدِيئَةِ وَأَقَامَا قَضَى بِبَيِّنَةِ رَبِّ السَّلَمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي رَأْسِ الْمَالِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا هَذَا الثَّوْبُ وَقَالَ الْآخَرُ هَذَا الْعَبْدُ وَاتَّفَقَا عَلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ أَنَّهُ الْحِنْطَةُ أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا هَذَا الثَّوْبُ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَالَ الْآخَرُ فِي كُرِّ شَعِيرٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ قَضَى بِالسَّلَمَيْنِ، فَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ.
وَأَبُو يُوسُفَ يَقول: كُلٌّ يَدَّعِي عَقْدًا غَيْرَ مَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ.
وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ لِرَبِّ السَّلَمِ وَيَقْضِي بِسَلَمٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ عَلَى الْقَلْبِ فَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ.
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِيهِمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي كُرَّيْ حِنْطَةٍ وَقَالَ الْآخَرُ خَمْسَةُ عَشَرَ فِي كُرٍّ وَأَقَامَا، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ فَيَجِبُ خَمْسَةُ عَشَرَ فِي كُرَّيْنِ وَلَا يَقْضِي بِسَلَمَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِسَلَمَيْنِ عَقْدٌ بِخَمْسَةِ عَشَرَ فِي كُرٍّ وَعَقْدٌ بِعَشَرَةٍ فِي كُرَّيْنِ.
وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ دَرَاهِمَ وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ بِسَلَمَيْنِ كَمَا فِي الثَّوْبَيْنِ.
وَفِيهَا: أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ وَشَرَطَ الْوَسَطَ فَجَاءَ بِجَيِّدٍ وَقَالَ خُذْ هَذَا وَزِدْنِي دَرَاهِمَ فَعَلَى وُجُوهٍ: إمَّا إنْ كَانَ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا أَوْ ذَرْعِيًّا، فَفِي الْكَيْلِيِّ فَإِنْ أَسْلَمَ فِي عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ فَجَاءَ بِأَحَدِ عَشَرَ وَقَالَ زِدْنِي دِرْهَمًا جَازَ لِأَنَّهُ بَاعَ قَفِيزًا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَلَوْ جَاءَ بِتِسْعَةٍ وَقَالَ خُذْ وَأَرُدُّ عَلَيْكَ دِرْهَمًا فَقِبَل جَازَ أَيْضًا فَإِنَّهُ إقَالَةٌ فِي الْبَعْضِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي الْكُلِّ وَلَوْ جَاءَ بِحِنْطَةٍ أَجْوَدُ أَوْ أَرْدَأُ فَأَعْطَى دِرْهَمًا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ فِي الْأَرْدَإِ وَالْأَجْوَدِ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ.
وَفِي الثَّوْبِ إنْ جَاءَ بِأَزْيَدَ بِذِرَاعٍ وَقَالَ زِدْنِي دِرْهَمًا جَازَ وَهُوَ بَيْعُ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ، بِخِلَافِ بَيْعِهِ مُفْرَدًا، وَكَذَا إذَا أَتَى بِالزِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ جَاءَ بِأَنْقَصَ فَرَدَّ مَعَهُ دِرْهَمًا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ إقَالَةٌ فِيمَا لَا يُعْلَمُ حِصَّتُهُ لِأَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ وَحِصَّتُهُ مَجْهُولَةٌ، هَذَا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ لِكُلِّ ذِرَاعٍ حِصَّةً، فَإِنْ بَيَّنَ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا لَوْ جَاءَ بِأَنْقَصَ وَصْفًا لَا يَجُوزُ وَلَوْ بِأَزْيَدَ وَصْفًا جَازَ الْكُلُّ فِي الْأَصْلِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ إذَا بَيَّنَ طُولًا وَعَرْضًا وَرُقَعَهُ) لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مَعْلُومٍ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ ثَوْبُ حَرِيرٍ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَزْنِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ إذَا بَيَّنَ طُولًا وَعَرْضًا وَرُقْعَةً لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مَعْلُومٍ) وَالرُّقْعَةُ يُرَادُ بِهَا قَدْرُ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَلْ فِي اشْتِرَاطِ وَزْنِهِ إذَا كَانَ حَرِيرًا فَإِنَّ عِنْدَ بَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَا يَشْتَرِطُونَهُ وَالْوَجْهُ بِهَا ظَاهِرٌ، وَكَذَا يَجُوزُ فِي الْبُسُطِ وَالْأَكْسِيَةِ وَالْمُسُوحِ وَالْجُوَالِقِ وَالْبَوَارِي إذَا بَيَّنَ الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَالصَّنْعَةَ، وَكُلُّ مَا اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُ بِالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ مِنْ الثِّيَابِ عُرْفًا كَالْوَذَارِيِّ يُشْتَرَطُ بَيَانُ وَزْنِهِ وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ نَاجِزًا.
فِي الْمُنْتَقَى: إذَا بَاعَ ثَوْبَيْ حَرِيرًا يَدًا بِيَدٍ لَا يَجُوزُ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي السَّلَمِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ يُكْتَفَى بِتَعْرِيفِهَا فِي الْبَيْعِ، غَايَةُ الْأَمْرِ عَدَمُ مَعْرِفَةِ ثِقَلِهِ وَهُوَ كَعَدَمِ مَعْرِفَةِ عَدَدِ قُفْزَانِ الصُّبْرَةِ وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ، وَفِي الطُّولِ يَذْكُرُ عَدَدَ الذُّرْعَانِ يَجِبُ أَنْ يُتَوَسَّطَ عِنْدَ الذَّرْعِ بَيْنَ إرْخَاءِ الثَّوْبِ وَمَدِّهِ إنْ كَانَ الذِّرَاعُ مُخْتَلِفُ الطُّولِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَإِذَا دَخَلَ ثِيَابَ الْحَرِيرِ الْوَزْنُ لَزِمَ أَنْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا جُزَافًا فَلِذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ بَيْعَ ثَوْبِ خَزٍّ بِثَوْبِ خَزٍّ يَدًا بِيَدٍ لَا يَجُوزُ إلَّا وَزْنًا كَأَوَانِي الصُّفْرِ.

متن الهداية:
(وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجَوَاهِرِ وَلَا فِي الْخَرَزِ) لِأَنَّ آحَادَهَا مُتَفَاوِتَةٌ تَفَاوُتًا فَاحِشًا وَفِي صِغَارِ اللُّؤْلُؤِ الَّتِي تُبَاعُ وَزْنًا يَجُوزُ السَّلَمُ لِأَنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْوَزْنِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجَوَاهِرِ) بِلَا خِلَافٍ إلَّا لِمَالِكٍ (وَلَا فِي الْخَرَزِ لِأَنَّ آحَادُهَا تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا) فِي الْمَالِيَّةِ فَإِنَّ الْجَوْهَرَتَيْنِ قَدْ يَتَّحِدَانِ وَزْنًا وَيَخْتَلِفَانِ قِيمَةً بِاعْتِبَارِ حُسْنِ الْهَيْئَةِ، اللَّهُمَّ إلَّا فِي الصِّغَارِ الَّتِي تُدَقُّ لِلْكُحْلِ وَالتَّدَاوِي فَيَجُوزُ وَزْنًا.

متن الهداية:
(وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبِنِ وَالْآجُرِّ إذَا سَمَّى مَلْبَنًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ لَا سِيَّمَا إذَا سُمِّيَ الْمَلْبَنُ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبِنِ وَالْآجُرِّ إذَا سَمَّى مَلْبَنًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ إذَا سَمَّى الْمَلْبَنَ.
وَقولهُ (لَا سِيَّمَا إذَا سَمَّى إلَى آخِرِهِ) يُعْطِي أَنَّهُ مُتَقَارِبُ فَلَا تُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْمَلْبَنِ بَلْ إذَا سُمِّيَ يَكُونُ أَحْسَنُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ مِائَةِ آجُرَّةٍ مِنْ أَتُّونٍ، وَفِي عُرْفِ بِلَادِنَا يُسَمُّونَهُ قَمِينًا أَوْ قُمَيْرًا وَهُوَ الَّذِي يُبْنَى لِيُشْوَى فِيهِ الْآجُرُّ وَالْحِجَارَةُ تُعْمَلُ جِيرًا لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ فِي النُّضْجِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَأَلْحَقْنَاهُ فِي السَّلَمِ بِالْمُتَفَاوِتِ الْمُتَقَارِبِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَكُلُّ مَا أَمْكَنَ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ) لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ (وَمَا لَا يُضْبَطُ صِفَتُهُ وَلَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ، وَبِدُونِ الْوَصْفِ يَبْقَى مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَكُلُّ مَا أُمّكُنَّ ضَبْطُ صِفَتِهِ إلَى آخِرِهِ) لَا خِلَاف فِيهِ كَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالْإِبْرَيْسَمِ وَالنُّحَاسِ وَالتِّبْرِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ وَالْحِنَّاءِ وَالْوَسْمَةِ وَالرَّيَاحِينِ الْيَابِسَةِ وَالْجُذُوعِ إذَا بَيَّنَ طُولًا وَعَرْضًا وَغِلَظًا وَالْقَصَبُ وَصُوفُ الْأَخْشَابِ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي التِّبْنِ كَيْلًا بِالْغَرَائِرِ، وَقِيلَ هُوَ مَوْزُونٌ، وَقِيلَ يُعْتَبَرُ التَّعَارُفُ، وَفِي عُرْفِنَا كَيْلُهُ فِي شِبَاكِ اللِّيفِ يُسَمُّونَهُ أَهْلُ الْعُرْفِ شَنِيفًا.

متن الهداية:
(وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي طَسْتٍ أَوْ قُمْقُمَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إذَا كَانَ يُعْرَفُ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ السَّلَمِ (وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ فَلَا خَيْرَ فِيهِ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ مَجْهُولٌ.
قَالَ: (وَإِنْ اسْتَصْنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَجَلٍ جَازَ اسْتِحْسَانًا) لِلْإِجْمَاعِ الثَّابِتِ بِالتَّعَامُلِ.
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعًا لَا عِدَةً، وَالْمَعْدُومُ قَدْ يُعْتَبَرُ مَوْجُودًا حُكْمًا، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ دُونَ الْعَمَلِ، حَتَّى لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا لَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ مِنْ صَنْعَتِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَأَخَذَهُ جَازَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالِاخْتِيَارِ، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ الصَّانِعُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ جَازَ، وَهَذَا كُلُّهُ هُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ: (وَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ) لِأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ وَلَا خِيَارَ لِلصَّانِعِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ قَطْعُ الصَّرْمِ وَغَيْرِهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُمَا.
أَمَّا الصَّانِعُ فَلِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا الْمُسْتَصْنِعُ فَلِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ إضْرَارًا بِالصَّانِعِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَشْتَرِيهِ غَيْرُهُ بِمِثْلِهِ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِلنَّاسِ كَالثِّيَابِ لِعَدَمِ الْمُجَوَّزِ وَفِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا أَمْكَنَ إعْلَامُهُ بِالْوَصْفِ لِيُمْكِنَ التَّسْلِيمُ، وَإِنَّمَا قَالَ بِغَيْرِ أَجَلٍ لِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ الْأَجَلَ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ يَصِيرُ سَلَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ ضَرَبَهُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ يَصِيرُ سَلَمًا بِالِاتِّفَاقِ.
لَهُمَا أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ لِلِاسْتِصْنَاعِ فَيُحَافَظُ عَلَى قَضِيَّتِهِ وَيُحْمَلُ الْأَجَلُ عَلَى التَّعْجِيلِ، بِخِلَافِ مَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِأَنَّهُ اسْتِصْنَاعٌ فَاسِدٌ فَيُحْمَلُ عَلَى السَّلَمِ الصَّحِيحِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ دَيْنٌ يَحْتَمِلُ السَّلَمَ، وَجَوَازُ السَّلَمِ بِإِجْمَاعٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَفِي تَعَامُلِهِمْ الِاسْتِصْنَاعُ نَوْعُ شُبْهَةٍ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى السَّلَمِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي طَسْتٍ أَوْ قُمْقُمَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ) كَالْكُوزِ وَالْآنِيَةِ مِنْ النُّحَاسِ وَالزُّجَاجِ وَالْحَدِيدِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَالطَّوَاجِنِ إذَا ضُبِطَ وَاسْتَقْصَى فِي صِفَتِهِ مِنْ الْغَلَطِ وَالسَّعَةِ وَالضَّيِّقِ بِحَيْثُ يَنْحَصِرُ فَلَا يَتَفَاوَتُ إلَّا يَسِيرًا.
قولهُ: (وَإِنْ اسْتَصْنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَجَلٍ جَازَ اسْتِحْسَانًا) الِاسْتِصْنَاعُ طَلَبُ الصَّنْعَةِ وَهُوَ أَنْ يَقول لِصَانِعِ خُفٍّ أَوْ مُكَعَّبٍ أَوْ أَوَانِي الصُّفْرِ اصْنَعْ لِي خُفًّا طُولُهُ كَذَا وَسِعَتُهُ كَذَا أَوْ دُسَتًا: أَيْ بُرْمَةً تَسَعُ كَذَا وَزْنُهَا كَذَا عَلَى هَيْئَةِ كَذَا بِكَذَا وَيُعْطِي الثَّمَن الْمُسَمَّى أَوْ لَا يُعْطِي شَيْئًا فَيَعْقِدُ الْآخَرُ مَعَهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا تَبَعًا لِلْعَيْنِ.
وَالْقِيَاس أَنْ لَا يَجُوز وَهُوَ قول زَفَرَ وَالشَّافِعِيّ، إذْ لَا يُمْكِنُ إجَارَةً لِأَنَّهُ اسْتِئْجَار عَلَى الْعَمَل فِي مِلْكِ الْأَجِيرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوز كَمَا لَوْ قَالَ احْمِلْ طَعَامَكَ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ إلَى مَكَانِ كَذَا بِكَذَا، أَوْ اُصْبُغْ ثَوْبَك أَحْمَرَ بِكَذَا لَا يَصِحُّ وَلَا بَيْعًا لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِ الْعَاقِدِ لَمْ يَجُزْ، فَإِذَا كَانَ مَعْدُومًا فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْجَوَازِ، وَلَكِنَّا جَوَّزْنَاهُ اسْتِحْسَانًا لِلتَّعَامُلِ الرَّاجِعِ إلَى الْإِجْمَاعِ الْعَمَلِيِّ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَوْمِ بِلَا نَكِيرٍ، وَالتَّعَامُلُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَصْلٌ مُنْدَرِجٌ فِي قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» وَقَدْ اسْتَصْنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا. وَاحْتَجَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ، مَعَ أَنَّ مِقْدَارَ عَمَلِ الْحِجَامَةِ وَعَدَدَ كُرَّاتِ وَضْعِ الْمَحَاجِمِ وَمَصَّهَا غَيْرُ لَازِمٍ عِنْدَ أَحَدٍ.
وَمِثْلِهِ شُرْبُ الْمَاء مِنْ السِّقَاءِ، وَسَمِعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوُجُودِ الْحَمَّامِ فَأَبَاحَهُ بِمِئْزَرٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ شَرْطًا.
وَتَعَامَلَ النَّاسُ بِدُخُولِهِ مِنْ لَدُنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْآنَ، وَهُوَ أَنْ لَا يَذْكُرَ عَدَدَ مَا يَصُبُّهُ مِنْ مِلْءِ الطَّاسَةِ وَنَحْوِهَا فَقَصَرْنَاهُ عَلَى مَا فِيهِ تَعَامُلٌ، وَفِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ رَجَعْنَا فِيهِ إلَى الْقِيَاسِ كَأَنْ يَسْتَصْنِعَ حَائِكًا أَوْ خَيَّاطًا لَيَنْسِجَ لَهُ أَوْ يَخِيطَ قَمِيصًا بِغَزْلِ نَفْسِهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ أَنَّهُ مُوَاعَدَةٌ أَوْ مُعَاقَدَةٌ، فَالْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَالصَّفَّارُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَصَاحِبُ الْمَنْثُورِ مُوَاعَدَةٌ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ الْفَرَاغِ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي وَلِهَذَا كَانَ لِلصَّانِعِ أَنْ لَا يَعْمَلَ وَلَا يُجْبَرَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السَّلَمِ، وَلِلْمُسْتَصْنِعِ أَنْ لَا يَقْبَلَ مَا يَأْتِي بِهِ وَيَرْجِعَ عَنْهُ، وَلَا تَلْزَمُ الْمُعَامَلَةُ وَكَذَا الْمُزَارِعَةُ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ لِفَسَادِهِمَا مَعَ التَّعَامُلِ لِثُبُوتِ الْخِلَافِ فِيهِمَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا كَانَ عَلَى الِاتِّفَاقِ.
وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ جَوَازُهُ بَيْعًا لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَهُمَا لَا يَجْرِيَانِ فِي الْمُوَاعَدَةِ، وَلِأَنَّهُ جَوَّزَهُ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ دُونَ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ مُوَاعَدَةً جَازَ فِي الْكُلِّ، وَسَمَّاهُ شِرَاءً فَقَالَ: إذَا رَآهُ الْمُسْتَصْنَعُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ، وَلِأَنَّ الصَّانِعَ يَمْلِكُ الدَّرَاهِمَ بِقَبْضِهَا وَلَوْ كَانَتْ مَوَاعِيدُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَإِثْبَاتُ أَبِي الْيُسْرِ الْخِيَارَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ بَيْعٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ لَوْ لَمْ يَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْخِيَارُ وَحِينَ لَزِمَ جَوَازُهُ عِلْمنَا أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ فِيهَا الْمَعْدُومَ مَوْجُودًا وَفِي الشَّرْعِ كَثِيرٌ كَذَلِكَ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَتَسْمِيَةِ الذَّابِحِ إذَا نَسِيَهَا وَالرَّهْنِ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ وَقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ.
وَقولهُ (وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْن دُونَ الْعَمَلِ) نَفْيٌ لِقول أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ لِأَنَّ الِاسْتِصْنَاعَ يُنَبِّئُ عَنْهُ كَمَا قُلْنَا، وَالْأَدِيمُ وَالصَّرْمُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قول مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ، وَلِذَا لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا لَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ مِنْ صَنَعْته قَبْلَ الْعَقْدِ فَأَخَذَهُ جَازَ، وَإِنَّمَا نُبْطِلُهُ بِمَوْتِ الصَّانِعِ لِشَبَهِهِ بِالْإِجَارَةِ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: وَهُوَ إجَارَةٌ ابْتِدَاءً بَيْعٌ انْتِهَاءً، لَكِنْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا عِنْدَ التَّسْلِيمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا مَاتَ الصَّانِعُ يَبْطُلُ وَلَا يُسْتَوْفَى الْمَصْنُوعُ مِنْ تَرِكَتِهِ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ انْعَقَدَ إجَارَةً أُجْبِرَ الصَّانِعُ عَلَى الْعَمَلِ وَالْمُسْتَصْنِعُ عَلَى إعْطَاءِ الْمُسَمَّى.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُجْبَرْ الصَّانِعُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِإِتْلَافِ عَيْنٍ لَهُ مِنْ قَطْعِ الْأَدِيمِ وَنَحْوِهِ، وَالْإِجَارَةُ تُفْسَخُ فَفُسِخَ بِهَذَا الْعُذْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُزَارِعَ لَهُ أَنْ لَا يَعْمَلَ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ جِهَتِهِ، وَكَذَا رَبُّ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ بِهَذِهِ الْإِجَارَةِ إلَّا بِذَلِكَ وَالْمُسْتَصْنِعُ وَلَوْ شَرْطَ تَعْجِيلَهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ فِي الْآخِرَةِ كَشِرَاءِ مَا لَمْ يَرَهُ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الِاسْتِصْنَاعِ لِلْحَاجَةِ وَهِيَ فِي الْجَوَازِ لَا اللُّزُومِ، وَلِذَا قُلْنَا لِلصَّانِعِ أَنْ يَبِيعَ الْمَصْنُوعَ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرَ لَازِمٍ وَأَمَّا بَعْدَ مَا رَآهُ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلصَّانِعِ، بَلْ إذَا قِبَلَهُ الْمُسْتَصْنِعُ أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِهِ لَهُ لِأَنَّهُ بِالْآخِرَةِ بَائِعٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ):
قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ، الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ، لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إنَّ مِنْ السُّحْتِ مَهْرَ الْبَغِيِّ وَثَمَنَ الْكَلْبِ» وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَالنَّجَاسَةُ تُشْعِرُ بِهَوَانِ الْمَحَلِّ وَجَوَازُ الْبَيْعِ يُشْعِرُ بِإِعْزَازِهِ فَكَانَ مُنْتَفِيًا.
وَلَنَا «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ» وَلِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا فَكَانَ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، بِخِلَافِ الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَلْعًا لَهُمْ عَنْ الِاقْتِنَاءِ وَلَا نُسَلِّمُ نَجَاسَةَ الْعَيْنِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ دُونَ الْبَيْعِ.
وَقَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا» وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّنَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
(مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ):
الْمَسَائِلُ الَّتِي تَشِذُّ عَنْ الْأَبْوَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَمْ تُذْكَرْ فِيهَا إذَا اُسْتُدْرِكَتْ سُمِّيَتْ مَسَائِلَ مَنْثُورَةً: أَيْ مُتَفَرِّقَةً عَنْ أَبْوَابِهَا.
قولهُ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ، الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) هَكَذَا أُطْلِقَ فِي الْأَصْلِ، فَمَشَى بَعْضُهُمْ عَلَى إطْلَاقِهِ كَالْقُدُورِيِّ.
وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ: نَصَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَتَضْمِينِ مَنْ قَتَلَهُ قِيمَتَهُ.
وَرَوَى الْفَضْلُ بْنُ غَانِمٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ نَصُّهُ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الْعَقُورِ، وَعَلَى هَذَا مَشَى فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ إذَا كَانَ بِحَالٍ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ.
وَنُقِلَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْجَرْوِ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، وَقَالَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ.
قَالَ: وَهَكَذَا نَقول فِي الْأَسَدِ إذَا كَانَ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ وَيَصْطَادُ بِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ وَالِاصْطِيَادَ بِهِ لَا يَجُوزُ، قَالَ: وَالْفَهْدُ وَالْبَازِي يَقْبَلَانِ التَّعْلِيمَ فَيَجُوزُ بَيْعُهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ انْتَهَى.
فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ النَّمِرِ بِحَالٍ لِأَنَّهُ لِشَرِّهِ لَا يَقْبَلُ تَعْلِيمًا.
وَفِي بَيْعِ الْقِرْدِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: رِوَايَةُ الْحَسَنِ الْجَوَازُ، وَرِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ بِالْمَنْعِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَكْرَهُ بَيْعَهُ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ إنَّمَا هُوَ لِلَّهْوِ وَهَذِهِ جِهَةٌ مُحَرَّمَةٌ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَوَازِ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ وَهَذَا هُوَ وَجْهُ رِوَايَةِ إطْلَاقِ بَيْعِ الْكَلْبِ وَالسِّبَاعِ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ أَوْ عَظْمِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْهِرَّةِ لِأَنَّهَا تَصْطَادُ الْفَأْرَ وَالْهَوَامَّ الْمُؤْذِيَةَ فَهِيَ مُنْتَفَعٌ بِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ هَوَامِّ الْأَرْضِ كَالْخَنَافِسِ وَالْعَقَارِبِ وَالْفَأْرَةِ وَالنَّمْلِ وَالْوَزَغِ وَالْقَنَافِذِ وَالضَّبِّ، وَلَا هَوَامِّ الْبَحْرِ كَالضُّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ.
وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَّاتِ إذَا كَانَ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْأَدْوِيَةِ وَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ فَلَا يَجُوزُ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الدُّهْنِ النَّجِسِ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ لِلِاسْتِصْبَاحِ فَهُوَ كَالسِّرْقِينِ، وَأَمَّا الْعَذِرَةُ فَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا إذَا خُلِطَتْ بِالتُّرَابِ فَلَا بِجَوَازِ بَيْعِهَا إلَّا تَبَعًا لِلتُّرَابِ الْمَخْلُوطِ، بِخِلَافِ الدَّمِ يَمْتَنِعُ مُطْلَقًا.
قولهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ) مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِلصَّيْدِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَأَمَّا اقْتِنَاؤُهُ لِلصَّيْدِ وَحِرَاسَةِ الْمَاشِيَةِ وَالْبُيُوتِ وَالزَّرْعِ فَيَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَهُ فِي دَارِهِ إلَّا إنْ خَافَ لُصُوصًا أَوْ أَعْدَاءً لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» وَجْهُ قولهِ مَا رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «إنَّ مَهْرَ الْبَغِيِّ وَثَمَنَ الْكَلْبِ وَكَسْبَ الْحَجَّامِ مِنْ السُّحْتِ» وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدَيْنِ فِيهِمَا ضَعْفٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ».
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ» (وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَالنَّجَاسَةُ تُشْعِرُ بِهَوَانِ الْمَحَلِّ وَالْبَيْعُ بِرِفْعَتِهِ) فَلَا يَجْتَمِعَانِ، وَعَارَضَهُ الْمُصَنِّفُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا (أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ») وَهُوَ غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ.
نَعَمْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ» وَضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ إسْنَادُهُ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ لَيْسَ فِيهَا هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، لَكِنْ رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ فِي سَنَدِهِ عَنْ الْهَيْثَمِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «أَرْخَصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَمَنِ كَلْبِ الصَّيْدِ» وَهَذَا سَنَدٌ جَيِّدٌ، فَإِنَّ الْهَيْثَمَ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ مِنْ أَثْبَاتِ التَّابِعِينَ، فَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى رَأْيِهِمْ يَصْلُحُ مُخَصِّصًا وَالْمُخَصِّصُ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِالْعَامِّ فَيَجُوزُ وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فِي الْقُوَّةِ عِنْدَهُمْ، حَتَّى أَجَازُوا تَخْصِيصَ الْعَامِّ الْقَاطِعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ابْتِدَاءً فَبَطَلَ مُدَّعَاهُمْ مِنْ عُمُومِ مَنْعِ الْبَيْعِ، ثُمَّ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ مِمَّا يُعَلَّلُ وَيُخْرَجُ مِنْ الْعَامِّ مَرَّةً أُخْرَى، وَتَعْلِيلُ إخْرَاجِ كَلْبِ الصَّيْدِ سَاطِعٌ أَنَّهُ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَخُصُوصُ الِاصْطِيَادِ مُلْغًى إذْ لَا يَظْهَرُ مُوجِبٌ لِذَلِكَ فَصَارَ الْكَلْبُ الْمُنْتَفَعُ بِهِ خَارِجًا سَوَاءٌ اُنْتُفِعَ بِهِ فِي صَيْدٍ أَوْ حِرَاسَةِ مَاشِيَةٍ وَخَرَجَ الْعَقُورُ.
وَمَنْ مَشَى مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ يَقول: كُلُّ كَلْبٍ تَتَأَتَّى مِنْهُ الْحِرَاسَةُ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْكُلِّ.
وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ نَسْخٌ لِمُوجِبِ الْعَامِّ بِالتَّعْلِيلِ وَلَا نَسْخَ بِقِيَاسٍ.
فَالْوَجْهُ أَنْ يُعَلَّلَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ بِنَفْعٍ لَا تَرْبُو عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ، وَيَدَّعِي فِي الْعَقُورِ أَنَّ مَفْسَدَتَهُ تَرْبُو عَلَى مَنْفَعَةِ حِرَاسَتِهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ خَاصَّةٌ يَقْتَرِنُ بِهَا ضَرَرٌ عَامٌّ لِلنَّاسِ فَيَخْرُجُ مَا سِوَاهُ.
وَقَصُرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ نَظَرَهُ عَلَى الْحَدِيثِ فَحَكَمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى الْمَذْهَبِ بَلْ ذَكَرَهُ لِنَفْيِ مَذْهَبِ الْخَصْمِ: أَعْنِي شُمُولَ الْمَنْعِ فَيَحْتَاجُ بَعْدَهُ إلَى دَلِيلِ الْمَذْهَبِ وَلَيْسَ إلَّا الْوَجْهَ الثَّانِيَ، وَعَلَى تَقْرِيرِنَا يَتِمُّ الْأَوَّلُ أَيْضًا.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ مِنْ الشُّرُوحِ عَلَى عُمُومِ بَيْعِ الْكَلْبِ بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَنَّهُ قَضَى فِي كَلْبٍ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا» وَلَمْ يُخَصِّصْ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْكِلَابِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوَّلًا لَا يُعْرَفُ إلَّا مَوْقُوفًا حَدَّثَ بِهِ الطَّحَاوِيُّ عَنْ يُونُسَ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّهُ قَضَى فِي كَلْبِ صَيْدٍ قَتَلَهُ رَجُلٌ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَقَضَى فِي كَلْبِ مَاشِيَةٍ بِكَبْشٍ».
وَثَانِيًا هُوَ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا تُوجِبُ الْعُمُومَ فِي أَنْوَاعِ الْكِلَابِ فَجَعْلُهَا دَلِيلًا عَلَى الْعُمُومِ خَطَأٌ ظَاهِرٌ.
ثَانِيهمَا هُوَ قولهُ (وَلِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا فَكَانَ مَالًا) يَعْنِي مَالًا مَمْلُوكًا مُتَقَوِّمًا.
أَمَّا كَوْنُهُ مَالًا فَلِأَنَّ الْمَالَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْآدَمِيِّ خُلِقَ لِمَنْفَعَتِهِ الْمُطْلَقَةِ شَرْعًا، وَهَذَا كَذَلِكَ فَكَانَ مَالًا، وَأَمَّا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ مُتَقَوِّمٌ فَلِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ مَأْذُونٌ شَرْعًا فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَالتَّقَوُّمُ بِالتَّمَوُّلِ، وَكِلَاهُمَا مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا إذْ قَدْ أَذِنَ الشَّرْعُ فِي اقْتِنَاءِ كَلْبِ الْمَاشِيَةِ وَالصَّيْدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ بَيْعُهُ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَرَجَّحُ عَلَى النَّصِّ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ.
غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُسَلَّمَ أَنَّهُ مَالٌ مُحَرَّزٌ مُتَقَوِّمٌ لَكِنْ ثَبَتَ مَنْعُ الشَّرْعِ مِنْ بَيْعِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَالِ.
فَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِادِّعَاءِ نَسْخِ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِمَا قُلْنَا أَوَّلَ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ كَانَ أَمْرًا مُحَقَّقًا فِي الْأَوَّلِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عُلِمَ نَسْخُ ذَلِكَ بِرِوَايَةِ تَرْكِ قَتْلِهَا عَلَى مَا حَدَّثَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ: مَالِي وَلِلْكِلَابِ؟ ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَفِي كَلْبٍ آخَرَ نَسِيَهُ سَعِيدٌ».
وَلِهَذَا الْمَعْنَى طُرُقٌ كَثِيرَةٌ وَجَبَ حَمْلُ مَا رُوِيَ مِنْ التَّشْدِيدِ فِي سُؤْرِهَا وَالنَّهْيُ عَنْ ثَمَنِهَا وَبَيْعِهَا ثُمَّ التَّرْخِيصُ فِي بَيْعِ النَّوْعِ الَّذِي أَذِنَ فِي اقْتِنَائِهِ، الْأَوَّلُ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَالثَّانِي عَلَى الثَّانِيَةِ، فَكَانَ مَنْعُ الْبَيْعِ عَلَى الْعُمُومِ مَنْسُوخًا بِإِطْلَاقِ بَيْعِ الْبَعْضِ بِالضَّرُورَةِ.
وَأَجَابَ عَنْ قولهِ: نَجِسُ الْعَيْنِ بِالْمَنْعِ بِدَلِيلِ إطْلَاقِ الِانْتِفَاعِ بِهِ.
قَالَ: (وَلَوْ سَلَّمَ فَنَجَاسَةُ عَيْنِهِ تُوجِبُ حُرْمَةَ أَكْلِهِ لَا مَنْعَ بَيْعِهِ) بَلْ مَنْعُ الْبَيْعِ بِمَنْعِ الِانْتِفَاعِ شَرْعًا، وَلِهَذَا أَجَزْنَا بَيْعَ السِّرْقِينِ وَالْبَعْرِ مَعَ نَجَاسَةِ عَيْنِهِمَا لِإِطْلَاقِ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا عِنْدَنَا، بِخِلَافِ الْعَذِرَةِ لَمْ يُطْلَقْ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَمُنِعَ بَيْعُهَا، فَإِنْ ثَبَتَ شَرْعًا إطْلَاقُ الِانْتِفَاعِ مَخْلُوطَةً بِالتُّرَابِ وَلَوْ بِالِاسْتِهْلَاكِ كَالِاسْتِصْبَاحِ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ كَمَا قِيلَ جَازَ بَيْعُ ذَلِكَ التُّرَابِ الَّتِي هِيَ فِي ضِمْنِهِ، وَبِهِ قَالَ مَشَايِخُنَا.
وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بَيْعُ الْخَمْرِ لِنَصٍّ خَاصٍّ فِي مَنْعِ بَيْعِهَا وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَمَّا يُعْصَرُ مِنْ الْعِنَبِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «إنَّ رَجُلًا أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ عَلِمْت أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ شُرْبَهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَسَارَّ إنْسَانًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَ سَارَرْته؟ قَالَ: أَمَرْته بِبَيْعِهَا، فَقَالَ: إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، قَالَ فَفَتَحَ الْمَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا».
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ يَقول وَهُوَ بِمَكَّةَ «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لَا هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهُ فَبَاعُوهُ وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» وَهَذَا يَتِمُّ بِهِ شَرْحُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقولهُ (وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَيَقُومُ إشْكَالًا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ السِّرْقِينِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرٍ فِي نَحْوِ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ، فَإِنَّا بَيَّنَّا فِي الْأُصُولِ أَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إلَى الْأَعْيَانِ تُقَدَّرُ إضَافَتُهُ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْعَيْنِ كَالشُّرْبِ مِنْ الْخَمْرِ وَالْأَكْلِ مِنْ الْمَيْتَةِ وَاللُّبْسِ مِنْ الْحَرِيرِ، فَقولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا» يَعْنِي إذَا حَرَّمَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الشَّيْءِ «حَرَّمَ بَيْعَهُ وَأَكْلَ ثَمَنِهِ» كَالْمَقْصُودِ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمَقْصُودِ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي السِّرْقِينِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ، فَإِنْ قَالَ النَّجَاسَةُ سَبَبٌ، قُلْنَا: مَمْنُوعٌ فَيَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ.
أَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ تَحْرِيمَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الشَّيْءِ مُوجِبٌ لِتَحْرِيمِ بَيْعِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَلِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ مُحْتَاجُونَ كَالْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: (إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ خَاصَّةً) فَإِنَّ عَقْدَهُمْ عَلَى الْخَمْرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْعَصِيرِ، وَعَقْدُهُمْ عَلَى الْخِنْزِيرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الشَّاةِ؛ لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ.
دَلَّ عَلَيْهِ قول عُمَرَ: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ) يَجُوزُ لَهُمْ مِنْهَا مَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمُوجِبِ الْبِيَاعَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ مُحْتَاجُونَ إلَى مُبَاشَرَتِهَا، وَقَدْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا بِالْإِقَامَةِ فِي دَارِنَا وَإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ فَلَا يَجُوزُ مِنْهُمْ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَا سَلَمَ فِي حَيَوَانٍ وَلَا نَسِيئَةَ فِي صَرْفٍ، وَكَذَا كُلُّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ هُمْ فِي الْبُيُوعِ كَالْمُسْلِمِينَ (إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ) فَإِنَّا نُجِيزُ بَيْعَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لِخُصُوصٍ فِيهِ مِنْ قول عُمَرَ أَخْرَجَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ عَنْ إسْرَائِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: سَمِعْت سُوَيْد بْنَ غَفَلَةَ يَقول: حَضَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَاجْتَمَعَ إلَيْهِ عُمَّالُهُ فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَأْخُذُونَ فِي الْجِزْيَةِ الْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْخَمْرَ، فَقَالَ بِلَالٌ: أَجَلْ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا وَلَكِنْ وَلَّوْا أَرْبَابَهَا بَيْعَهَا ثُمَّ خُذُوا الثَّمَنَ مِنْهُمْ، وَلَا نُجِيزُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بَيْعَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» لَمْ يُعْرَفْ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ عَبْدَك مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الثَّمَنِ سِوَى الْأَلْفِ فَفَعَلَ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَأْخُذُ الْأَلْفَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْخَمْسَمِائَةِ مِنْ الضَّامِنِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ جَازَ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ وَلَا شَيْءَ عَلَى الضَّمِينِ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَتَلْحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ كَوْنُهُ عَدْلًا أَوْ خَاسِرًا أَوْ رَابِحًا، ثُمَّ قَدْ لَا يَسْتَفِيدُ الْمُشْتَرِي بِهَا شَيْئًا بِأَنْ زَادَ فِي الثَّمَنِ وَهُوَ يُسَاوِي الْمَبِيعَ بِدُونِهَا فَيَصِحُّ اشْتِرَاطُهَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ لَكِنْ مِنْ شَرْطِهَا الْمُقَابَلَةُ تَسْمِيَةً وَصُورَةً، فَإِذَا قَالَ مِنْ الثَّمَنِ وُجِدَ شَرْطُهَا فَيَصِحُّ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ لَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَصِحَّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: بِعْ عَبْدَك مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الثَّمَنِ سِوَى الْأَلْفِ فَقَالَ بِعْت فَهُوَ جَائِزٌ) وَهُوَ جَوَابٌ لِلْكُلِّ سَوَاءٌ كَانَ قول الضَّامِنِ ذَلِكَ بَعْدَ مُفَاوَضَةٍ بَيْنَ فُلَانٍ وَسَيِّدِ الْعَبْدِ بِأَلْفٍ وَإِبَاءً أَوْ ابْتِدَاءً.
قَالَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ: وَيَكُونُ الْبَيْعُ بَعْدَهُ دَلَالَةً عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ امْتِثَالٌ بِذَلِكَ كَقول الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك إنْ شِئْت فَقَالَتْ طَلَّقْت، يُجْعَلُ قَبُولًا اسْتِحْسَانًا، فَكَذَا هَذَا.
وَفِي بَعْضِهَا مَا يُفِيدُ أَنَّهُ إيجَابٌ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إبَاءً وَلَا مُسَاوَمَةً وَحَصَلَ إيجَابُ الْعَقْدِ عَقِيبَ ضَمَانِ الرَّجُلِ كَانَ كَذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ قولهُ بِعْ عَبْدَك أَمْرٌ وَلَفْظَةُ الْأَمْرِ لَا تَكُونُ فِي الْبَيْعِ إيجَابًا عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْنِي هَذَا بِكَذَا فَقَالَ بِعْت لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَقْبَلَ الْآخَرُ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ طَلِّقِي نَفْسَك فِي التَّفْوِيضِ فِي الْخُلْعِ فَلَا بُدَّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَقول بَعْدَ بِعْت مِنْ الْبَائِعِ اشْتَرَيْت أَوْ مَعْنَاهُ عَلَى مَا سَلَفَ هُنَاكَ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ فَبَاعَ جَازَ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ فَقَطْ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: مِنْ الثَّمَنِ فَقَدْ أَضَافَ الْتِزَامَهُ زِيَادَةَ خَمْسِمِائَةٍ فِي الثَّمَنِ إلَى بَيْعِهِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَالضَّمَانُ جَائِزُ الْإِضَافَةِ فَقَدْ وُجِدَ الْمُقْتَضِي لِلُّزُومِ بِلَا مَانِعٍ.
وَإِذَا لَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ لَمْ يَلْتَزِمْ الْخَمْسَمِائَةِ مِنْ الثَّمَنِ بَلْ الْتَزَمَ مَالًا يُعْطِيهِ إيَّاهُ إنْ بَاعَهُ بِأَلْفٍ، وَهَذِهِ رِشْوَةٌ إذْ لَمْ تُقَابَلْ بِالْمَبِيعِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ فَيَنْعَقِدُ بِأَلْفٍ فَقَطْ، ثُمَّ فِي الْأَوَّلِ إنْ كَانَ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَأْخُذَ الْخَمْسَمِائَةِ مِنْ الضَّامِنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَى الْمُشْتَرِي صَارَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُرَابِحَ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ أَخَذَهَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَلَوْ رَدَّ بِعَيْبٍ أَوْ تَقَايَلَا فَالْبَائِعُ يَرُدُّ الْأَلْفَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْخَمْسَمِائَةِ عَلَى الضَّامِنِ، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ وَيُرَابِحُ عَلَى أَلْفٍ وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِأَلْفٍ.
وَلَوْ تَقَايَلَا أَوْ رُدَّتْ بِعَيْبٍ أَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فَلِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْخَمْسَمِائَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا يَجُوزُ فَكَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ عَلَيْهِ.
أَجَابَ الْكَرْخِيُّ بِمَنْعِ كَوْنِ الشِّرَاءِ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا يَجُوزُ إذْ لَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا.
وَتَعَقَّبَهُ الرَّازِيّ بِأَنَّ مُحَمَّدًا نَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى غَيْرِ الْبَائِعِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ كَوْنَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ إذَا كَانَ أَصْلُ الثَّمَنِ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجُوزَ وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي الَّذِي امْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِلدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ فَالْتَزَمَهُ أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَقَدْ الْتَزَمَ دَيْنًا لَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ يَحْصُلُ لِلْمُلْتَزِمِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَذَلِكَ إذْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي مُقَابَلَتِهَا شَيْءٌ.
وَدُفِعَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِالنَّظَرِ إلَى مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ لَزِمَ جَوَازُ اشْتِرَاطِ كُلِّ الثَّمَنِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ.
فَالْجَوَابُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَهَا شِبْهٌ بِبَدَلِ الْخُلْعِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ يُسَلَّمُ لِلْمُلْتَزِمِ وَبَدَلُ الْخُلْعِ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَقَدْ يُقَالُ: هَذَا التَّعْلِيلُ قَاصِرٌ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ كَمَا لَا تَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ تَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ، وَوُجُودُهَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ أَكْثَرُ أَحْوَالِ الْعَقْدِ، فَإِنَّ أَحْوَالَهُ ثَلَاثَةٌ: كَوْنُهُ خَاسِرًا، وَرَابِحًا، وَعَدْلًا.
وَكَوْنُهَا لَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ فِي وَجْهٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ رَابِحًا فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الْأَقَلِّ بَلْ الْوَاجِبُ اعْتِبَارُ الْحَالِ الْأَغْلَبِيَّةِ فِي الْمُشَابَهَةِ خُصُوصًا إذَا كَانَ يُبْنَى عَلَيْهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَالْأَوْلَى مَا قِيلَ: إنَّ الزِّيَادَةَ ثَبَتَتْ تَبَعًا فَجَازَ أَنْ تَثْبُتَ عَلَى الْغَيْرِ بِخِلَافِ أَصْلِ الثَّمَنِ الثَّابِتِ مَقْصُودًا.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ ثَمَنًا وَالْأَجْنَبِيُّ ضَامِنٌ لَهَا لَزِمَ جَوَازُ مُطَالَبَةِ الْمُشْتَرِي بِهَا كَالْكَفِيلِ.
قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ عَلَى الْأَصِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَيْدٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفٌ وَأَنَا كَفِيلٌ بِهَا فَأَنْكَرَ فُلَانٌ طُولِبَ الْكَفِيلُ بِهَا دُونَ فُلَانٍ فَجَازَ هُنَا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَلْتَزِمْهَا إنَّمَا الْتَزَمَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَجْنَبِيُّ وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِلَا سَبَبٍ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى زَوَّجَهَا فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ) لِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ، وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الرَّقَبَةِ عَلَى الْكَمَالِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ.
(وَهَذَا قَبْضٌ) لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ فِعْلُهُ كَفِعْلِهِ (إنْ لَمْ يَطَأْهَا فَلَيْسَ بِقَبْضٍ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا؛ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمِيٌّ فَيُعْتَبَرُ بِالتَّعْيِيبِ الْحَقِيقِيِّ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي الْحَقِيقِيِّ اسْتِيلَاءً عَلَى الْمَحَلِّ وَبِهِ يَصِيرُ قَابِضًا وَلَا كَذَلِكَ الْحُكْمِيُّ فَافْتَرَقَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى زَوَّجَهَا فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ) وَوَطْءُ الزَّوْجِ قَبْضٌ مِنْ الْمُشْتَرِي خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِوُجُودِ سَبَبِ وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ عَلَى الْأَمَةِ (وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ عَلَى الْكَمَالِ) بِخِلَافِ مَا لَوْ مَلَكَهَا لَا عَلَى الْكَمَالِ كَمَا فِي مِلْكِ نِصْفِهَا لَا يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ بِهِ، وَإِنَّمَا جَازَ إنْكَاحُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالْغَرَرِ دُونَ النِّكَاحِ، وَفِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ احْتِمَالُ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالنِّكَاحُ لَا يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ: أَعْنِي الْمَرْأَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطٌ فِي الْبَيْعِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الْآبِقِ لَا يَصِحُّ وَتَزْوِيجَ الْآبِقَةِ يَجُوزُ.
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الْوَارِدُ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَارِدًا فِي النِّكَاحِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِيَثْبُتَ بِدَلَالَتِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الْمُشْتَرِي فَصَارَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي كَانَ قَابِضًا فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ، وَلَوْ لَمْ يَطَأْهَا الزَّوْجُ لَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي قَابِضًا اسْتِحْسَانًا، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ بَعْدَ التَّزْوِيجِ قَبْلَ الْوَطْءِ هَلَكَتْ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا بِمُجَرَّدِ التَّزْوِيجِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، حَتَّى إذَا هَلَكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ هَلَكَتْ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ تَعْيِيبٌ مِنْهُ لِلْمَبِيعِ، وَكَذَلِكَ يَثْبُتُ خِيَارُ الرَّدِّ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا ذَاتَ زَوْجٍ، وَالْمُشْتَرِي إذَا عَيَّبَ الْمَبِيعَ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا فِعْلٌ حِسِّيٌّ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالتَّزْوِيجُ تَعْيِيبٌ حُكْمِيٌّ بِمَعْنَى تَقْلِيلِ الرَّغَبَاتِ فِيهَا فَكَانَ كَنُقْصَانِ السِّعْرِ لَهُ وَكَالْإِقْرَارِ مِنْهُ عَلَيْهَا بِدَيْنٍ.
وَالْمُشْتَرِي إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَى الْعَبْدِ الْمَبِيعِ لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ قَابِضًا فَكَذَا مُجَرَّدُ التَّزْوِيجِ، بِخِلَافِ الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ كَأَنْ فَقَأَ عَيْنَهَا مَثَلًا أَوْ قَطَعَ يَدَهَا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَحَلِّ.
وَاسْتُشْكِلَ عَلَى هَذَا الْإِعْتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِهِمَا قَابِضًا وَلَيْسَ بِاسْتِيلَاءٍ عَلَى الْمَحَلِّ بِفِعْلٍ حِسِّيٍّ.
وَالْجَوَابُ إنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ نَفْسُ الْفِعْلِ قَبْضًا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يَكُونُ قَبْضًا هُوَ الْفِعْلُ الْحِسِّيُّ الَّذِي يَحْصُلُ الِاسْتِيلَاءُ، وَالْقَبْضُ الْحَاصِلُ بِالْعِتْقِ ضَرُورِيٌّ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَمِنْ ضَرُورَةِ إنْهَاءِ الْمِلْكِ كَوْنُهُ قَابِضًا وَالتَّدْبِيرُ مِنْ وَادِيهِ لِأَنَّهُ بِهِ يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبَّرِ وَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ.
هَذَا وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَوْ انْتَقَضَ الْبَيْعُ بَطَلَ النِّكَاحُ فِي قول أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَالْمُخْتَارُ قول أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَتَى انْتَقَضَ قَبْلَ الْقَبْضِ انْتَقَضَ مِنْ الْأَصْلِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَكَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، وَقَيَّدَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ بُطْلَانَ النِّكَاحِ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمَوْتِ، حَتَّى لَوْ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ بَعْدَ النِّكَاحِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ وَإِنْ بَطَلَ الْبَيْعُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَغَابَ فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهَا إيَّاهُ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ مَعْرُوفَةً لَمْ يُبَعْ فِي دَيْنِ الْبَائِعِ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيصَالُ الْبَائِعِ إلَى حَقِّهِ بِدُونِ الْبَيْعِ، وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُشْتَرِي (وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ هُوَ بِيعَ الْعَبْدُ وَأَوْفَى الثَّمَنَ) لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ فَيَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ مَشْغُولًا بِحَقِّهِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي يَبِيعُهُ الْقَاضِي فِيهِ كَالرَّاهِنِ إذَا مَاتَ وَالْمُشْتَرِي إذَا مَاتَ مُفْلِسًا وَالْمَبِيعُ لَمْ يُقْبَضْ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَبْقَ مُتَعَلِّقًا بِهِ، ثُمَّ إنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُمْسَكُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ حَقِّهِ وَإِنْ نَقَصَ يَتْبَعُ هُوَ أَيْضًا.
قَالَ: (فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَغَابَ أَحَدُهُمَا فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَيَقْبِضَهُ، وَإِذَا حَضَرَ الْآخَرُ لَمْ يَأْخُذْ نَصِيبَهُ حَتَّى يَنْقُدَ شَرِيكُهُ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَهُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا دَفَعَ الْحَاضِرُ الثَّمَنَ كُلَّهُ لَمْ يَقْبِضْ إلَّا نَصِيبَهُ وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِمَا أَدَّى عَنْ صَاحِبِهِ) لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَلَا يَقْبِضُهُ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ، وَالْمُضْطَرُّ يَرْجِعُ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ عَنْهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا قَضَى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَغَابَ) قَبْلَ الْقَبْضِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ (فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهُ إيَّاهُ) وَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ (فَإِنْ كَانَتْ غَيْبَةُ) الْمُشْتَرِي غَيْبَةً (مَعْرُوفَةً لَمْ يَبِعْهُ) الْقَاضِي (فِي دَيْنِ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيصَالُ الْبَائِعِ إلَى حَقِّهِ بِدُونِ الْبَيْعِ) فَيَكُونُ إبْطَالًا لِحَقِّ الْمُشْتَرِي فِي الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ هُوَ بِيعَ الْعَبْدُ وَأَوْفَى الثَّمَنَ) بِنَصْبِ الثَّمَنِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِبِيعَ وَقولهُ وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ هُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْغَيْبَةَ الْمَعْرُوفَةَ أَنْ يُعْلَمَ أَيْنَ هُوَ.
وَقولهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ بَيْعِ الْقَاضِي (لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ) يَعْنِي بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ (فَيَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ) وَهُوَ كَوْنُهُ (مَشْغُولًا بِحَقِّهِ) يُبَيِّنُ أَنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْقَاضِي لَيْسَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا لَا تُقَامُ لِإِثْبَاتِ الدَّيْنِ عَلَى الْغَائِبِ فَمَا هِيَ إلَّا لِكَشْفِ الْحَالِ لِيُجِيبَهُ الْقَاضِي إلَى الْبَيْعِ نَظَرًا لِلْغَائِبِ لَا لِيَثْبُت عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِمْهَا لَمْ يُجِبْهُ إلَى ذَلِكَ (وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ) وَالْفَرْضُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِمَالِيَّةِ هَذَا الْعَبْدِ لِأَنَّهُ كَالرَّهْنِ فِي يَدِهِ إلَى اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا كَانَ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِمَالِيَّتِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا مَاتَ الرَّاهِنُ فَإِنَّهُ أَحَقُّ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ فَيُعِينُهُ الْقَاضِي عَلَى بَيْعِهِ (بِخِلَافِ مَا بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ) أَيْ الْبَائِعِ (لَمْ يَبْقَ مُعَلَّقًا بِهِ) بَلْ هُوَ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَالْبَيِّنَةُ حِينَئِذٍ لِإِثْبَاتِ الدَّيْنِ وَلَا يَثْبُتُ دَيْنٌ عَلَى غَائِبٍ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْبَيْعِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهَذَا طَرِيقُ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَتَقْرِيرُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ يُشْعِرُ بِخِلَافِهِ حَيْثُ قَالَ: الْقِيَاسُ أَنْ لَا تُقْبَلَ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهَا عَلَى إثْبَاتِ حَقٍّ عَلَى الْغَائِبِ وَلَيْسَ ثَمَّ خَصْمٌ لَا قَصْدِيٌّ وَلَا حُكْمِيٌّ، فَهُوَ كَمَنْ أَقَامَهَا عَلَى غَائِبٍ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ لَا تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إلَى حَقِّهِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تُقْبَلُ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَجَزَ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الثَّمَنِ وَعَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ وَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي وَرُبَّمَا تَرْبُو النَّفَقَةُ عَنْ الثَّمَنِ وَالْقَاضِي نَاظِرٌ لِإِحْيَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَهَا لِدَفْعِ الْبَلِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَهَا لِيُثْبِتَ حَقًّا عَلَى الْغَائِبِ لِيَنْزِعَ شَيْئًا مِنْ يَدِهِ لَا يَقْبَلُهَا، وَالْإِجْمَاعُ فِي مِثْلِهِ لِدَفْعِ الْبَلِيَّةِ عَنْ الْبَائِعِ وَلَيْسَ فِيهِ إزَالَةُ يَدِ الْغَائِبِ عَمَّا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِمَّا فِي يَدِهِ.
وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ بَيْعَ الْمَنْقول قَبْلَ الْقَبْضِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ يَنْصِبُ الْقَاضِي مَنْ يَقْبِضُهُ ثُمَّ يَبِيعُهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَثْبُتُ ضِمْنًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ النَّظَرُ لِلْبَائِعِ بِإِحْيَاءِ حَقِّهِ وَالْبَيْعُ ضِمْنٌ لَهُ.
هَذَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي وَاحِدًا فَغَابَ، فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَغَابَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ إعْطَاءِ الثَّمَنِ فَالْحَاضِرُ لَا يَمْلِكُ قَبْضَ نَصِيبِهِ إلَّا بِنَقْدِ جَمِيعِ الثَّمَنِ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَوْ نَقَدَهُ اخْتَلَفُوا فِي مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ هَلْ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى قَبُولِ حِصَّةِ الْغَائِبِ؟ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُجْبَرُ.
وَالثَّانِي لَوْ أَنَّهُ قَبِلَ هَلْ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ نَصِيبِ الْغَائِبِ لِلْحَاضِرِ؟ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا، بَلْ لَا يَقْبِضُ إلَّا نَصِيبَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُهَايَأَةِ، وَعِنْدَهُمَا يُجْبَرُ.
وَالثَّانِي لَوْ قَبَضَ الْحَاضِرُ الْعَبْدَ هَلْ يَرْجِعُ عَلَى الْغَائِبِ بِمَا نَقَدَهُ؟ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ، وَلِلْحَاضِرِ حَبْسُ نَصِيبِ الْغَائِبِ إذَا حَضَرَ حَتَّى يُعْطِيَهُ مَا نَقَدَهُ عَنْهُ.
وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَاضِرَ قَضَى دَيْنَ الْغَائِبِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فَلَا يَرْجِعُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُ حِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا (وَلَهُمَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ) أَيْ فِي دَفْعِ حِصَّةِ الْغَائِبِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِهِ إلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ الصَّادِرَ إلَيْهِمَا مِنْ الْبَائِعِ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَالْمُضْطَرُّ يَرْجِعُ وَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ، وَصَارَ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ إذَا أَفْلَسَ الرَّاهِنُ وَهُوَ الْمُسْتَعِيرُ أَوْ غَابَ، فَإِنَّ الْمُعِيرَ إذَا افْتَكَّهُ بِدَفْعِ الدَّيْنِ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ، وَصَارَ كَصَاحِبِ الْعُلُوِّ إذَا سَقَطَ بِسُقُوطِ السُّفْلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ إذَا لَمْ يَبْنِهِ مَالِكُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى بِنَاءِ عُلُوِّهِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَلَا يُمَكِّنُهُ مِنْ دُخُولِهِ مَا لَمْ يُعْطِهِ مَا صَرَفَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ السُّفْلِ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ كَوْنِ صَاحِبِهِ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ إلَّا إذَا كَانَ غَائِبًا، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا لَا يَكُونُ مُضْطَرًّا فِي إيفَاءِ الْكُلِّ، إذْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ إلَى الْقَاضِي فِي أَنْ يَنْقُدَ حِصَّتَهُ لِيَقْبِضَ نَصِيبَهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ السُّفْلِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْعُلُوِّ لَوْ خَاصَمَهُ فِي أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِبِنَائِهِ فَكَانَ مُضْطَرًّا حَالَ حُضُورِهِ كَغَيْبَتِهِ (وَلَهُ) أَيْ لِلْحَاضِرِ.
وَمِثْلُ صُورَةِ حُضُورِهِمَا فِي عَدَمِ الِاضْطِرَارِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلَانِ دَارًا فَغَابَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ نَقْدِ الْأُجْرَةِ فَنَقَدَ الْحَاضِرُ جَمِيعَهَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي نَقْدِ حِصَّةِ الْغَائِبِ، إذْ لَيْسَ لِلْآجِرِ حَبْسُ الدَّارِ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ.
وَإِذَا ثَبَتَ حَقُّ الْحَبْسِ فِي مَسْأَلَتِنَا لِلْحَاضِرِ فَلَهُ حَبْسُهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْكُلَّ، وَلَوْ بَقِيَ دِرْهَمٌ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ عَنْ الْمُوَكِّلِ إلَى أَنْ يُعْطِيَهُ جَمِيعَ الثَّمَنِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَهُمَا نِصْفَانِ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمِثْقَالَ إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ فَيَجِبُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالٍ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَجِبُ مِنْ الذَّهَبِ مَثَاقِيلُ وَمِنْ الْفِضَّةِ دَرَاهِمُ وَزْنُ سَبْعَةٍ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَلْفَ إلَيْهِمَا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَزْنِ الْمَعْهُودِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً إلَخْ) صُورَتُهَا أَنْ يَقول: اشْتَرَيْت هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفِ دِينَارٍ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ أَوْ يَقول الْبَائِعُ: بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ إلَخْ.
وَلَفْظُ الْجَامِعِ: فِي رَجُلٍ يَقول لِرَجُلٍ: أَبِيعُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ جَيِّدٍ وَفِضَّةٍ قَالَ هُمَا نِصْفَانِ خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَخَمْسُمِائَةِ مِثْقَالِ فِضَّةٍ، وَيُشْتَرَطُ بَيَانُ الصِّفَةِ مِنْ الْجَوْدَةِ وَغَيْرِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ بِأَلْفٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الصِّفَةِ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ.
وَعُرِفَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ وَإِنْ احْتَمَلَ الْعِدَّةَ إذَا أَرَادَ بِهِ الْحَالَ.
وَقِيلَ بَلْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ مُسَاوَمَةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ ثُمَّ بَاعَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَثْبُتُ الِانْقِسَامُ.
وَفِيهِ أَنَّ إضَافَةَ الْمِثْقَالِ إلَى الذَّهَبِ ثُمَّ عَطْفَ الْفِضَّةِ عَلَيْهِ مُرْسَلًا يُوجِبُ كَوْنَ الْفِضَّةِ أَيْضًا مُضَافًا إلَيْهَا الْمِثْقَالُ، وَيَنْفِي وَهْمَ أَنْ يَفْسُدَ لِجَهَالَةِ الْفِضَّةِ لِأَنَّ الْمِثْقَالَ غَالِبٌ فِي الذَّهَبِ فَتَصِيرُ الْفِضَّةُ مُرْسَلَةً عَنْ قَيْدِ الْوَزْنِ بَلْ يَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا، وَكَذَا صِفَةُ الْجَوْدَةِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ عَلَى وَجْهِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، فَالْمِثْقَالُ الْمُتَقَدِّمُ فَسَّرَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ غَدًا وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَقَعَا جَمِيعًا غَدًا فَإِنَّهُمَا مُضَافَانِ.
ذَكَرَهُ فِي كَشْفِ الْغَوَامِضِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ قَالَ أَلْفٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ بِالْمَثَاقِيلِ وَخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ مِنْ الْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ فِي الدَّرَاهِمِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَلْفٌ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَجَبَ خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالٍ مِنْ الذَّهَبِ وَخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ مِنْ الْفِضَّةِ، لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِي وَزْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَا يَصْرِفُ أَحَدَهُمَا عَنْ الْمُتَعَارَفِ فِيهِ فَيُصْرَفُ إلَى الْوَزْنِ الْمَعْهُودِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَيَجِبُ كَوْنُ هَذَا إذَا كَانَ الْمُتَعَارَفُ فِي بَلَدِ الْعَقْدِ فِي اسْمِ الدَّرَاهِمِ مَا بِوَزْنِ سَبْعَةٍ وَالْمُتَعَارَفُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْآنَ كَالشَّامِ وَالْحِجَازِ لَيْسَ ذَلِكَ بَلْ وَزْنُ رُبْعٍ وَقِيرَاطٍ مِنْ ذَلِكَ الدِّرْهَمِ.
وَأَمَّا فِي عُرْفِ مِصْرَ لَفْظُ الدِّرْهَمِ يَنْصَرِفُ الْآنَ إلَى زِنَةِ أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ مِنْ الْفُلُوسِ، إلَّا أَنْ يُقَيَّدَ بِالْفِضَّةِ فَيَنْصَرِفَ إلَى دِرْهَمٍ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ فَإِنَّ مَا دُونَهُ ثَقُلَ أَوْ خَفَّ يُسَمُّونَهُ نِصْفَ فِضَّةٍ وَكَذَا هَذَا الِانْقِسَامُ فِي كُلِّ مَا يَقْرُبُهُ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا قَرْضًا أَوْ سَلَمًا أَوْ غَصْبًا أَوْ وَدِيعَةً أَوْ بَيْعًا أَوْ شِرَاءً أَوْ مَهْرًا أَوْ وَصِيَّةً أَوْ كَفَالَةً أَوْ جُعْلًا فِي خُلْعٍ، وَمِنْهُ مَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَسِمْسِمٍ كَانَ عَلَيْهِ الثُّلُثُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جِيَادٍ فَقَضَاهُ زُيُوفًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَأَنْفَقَهَا أَوْ هَلَكَتْ فَهُوَ قَضَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَرُدُّ مِثْلَ زُيُوفِهِ وَيَرْجِعُ بِدَرَاهِمِهِ) لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْوَصْفِ مَرْعِيٌّ كَهُوَ فِي الْأَصْلِ، وَلَا يُمْكِنُ رِعَايَتُهُ بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْوَصْفِ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا قُلْنَا.
وَلَهُمَا أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ.
حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ جَازَ فَيَقَعُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ وَلَا يَبْقَى حَقُّهُ إلَّا فِي الْجَوْدَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا بِإِيجَابِ ضَمَانِهَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جِيَادٍ فَقَضَاهُ عَشَرَةً زُيُوفًا وَهُوَ) أَيْ رَبُّ الدَّيْنِ (لَا يَعْلَمُ) أَنَّهَا زُيُوفٌ (فَهُوَ قَضَاءٌ) حَتَّى لَوْ أَنْفَقَهَا الدَّائِنُ أَوْ هَلَكَتْ ثُمَّ عَلِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ وَهَذَا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الزُّيُوفِ وَيَرْجِعَ بِالْجِيَادِ) وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ أَنَّ قولهُمَا قِيَاسٌ، وَقول أَبِي يُوسُفَ هُوَ الِاسْتِحْسَانُ.
لَهُ أَنَّ حَقَّهُ فِي الْجَوْدَةِ مَرْعِيٌّ كَحَقِّهِ فِي الْمِقْدَارِ وَقَدْ تَعَذَّرَ ضَمَانُ الْوَصْفِ بِانْفِرَادِهِ (لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا قُلْنَا) مِنْ ضَمَانِ الْأَصْلِ لِيَصِلَ إلَى الْوَصْفِ (وَلَهُمَا أَنَّهُ) أَيْ الزُّيُوفَ (مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ) بِهِ كَالصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ (جَازَ) وَمَا جَازَ إلَّا لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ اسْتِبْدَالًا بَلْ نَفْسُ الْحَقِّ (فَيَقَعُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ، وَإِنَّمَا يَبْقَى حَقُّهُ فِي الْجَوْدَةِ وَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا بِإِيجَابِ ضَمَانِهَا) بَعْدَ هَلَاكِ الدَّرَاهِمِ (لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا (وَلَا بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لَهُ عَلَيْهِ) يَعْنِي هُوَ إيجَابٌ لِلْقَابِضِ عَلَى نَفْسِهِ (وَلَا نَظِيرَ لَهُ) فِي الشَّرْعِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَنْفَصِلُ بِمَنْعِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا بَلْ تَدَارُكُهَا بِمَا ذَكَرَ مِنْ إيجَابِ الْمِثْلِ مُمْكِنٌ وَهَذَا كَمَا لَوْ وَجَدَهَا سَتُّوقَةً أَوْ نَبَهْرَجَةً فَهَلَكَتْ أَلَيْسَ يَرُدُّ مِثْلَهَا، فَإِنْ قَالَ: السَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْجِيَادِ حَتَّى يَصِيرَ مُقْتَضِيًا حَقَّهُ بِهَا.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُقْتَضِيًا حَقَّهُ بِالزَّيْفِ إلَّا إنْ عَلِمَ فَرَضِيَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ تَارِكٌ لِبَعْضِ حَقِّهِ وَهُوَ صِفَةُ الْجَوْدَةِ قولهُمْ فِيهِ مَانِعٌ وَهُوَ كَوْنُهُ يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ جِنْسَ حَقِّهِ، فَإِذَا ضَمِنَ مِثْلَهُ كَانَ الْوُجُوبُ لِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ إذْ الْمَدْيُونُ لَا يُضَمِّنُهُ شَيْئًا.
قُلْنَا: يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا أَفَادَ كَالْمَوْلَى إذَا أَتْلَفَ بَعْضَ أَكْسَابِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، وَقَدْ أَفَادَ هُنَا تَدَارُكَ حَقِّهِ فَصَارَ كَشِرَاءِ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ إلَّا إذَا أَفَادَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ أَوْ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا يَبْطُلُ قولهُمْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ.
وَيُجَابُ بِمَنْعِ الِاتِّحَادِ فِي الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ، بَلْ الضَّمَانُ فِي الْمَأْذُونِ لِلْغُرَمَاءِ وَهُنَا الْمَقْبُوضُ كُلُّهُ مِلْكٌ، وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ وَمَنْ عَلَيْهِ وَاحِدٌ وَهُوَ رَبُّ الدَّيْنِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ.
وَفِي النَّوَازِلِ: اشْتَرَى بِالْجِيَادِ وَنَقَدَ الزُّيُوفَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِالْجِيَادِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ بِمَا اشْتَرَى.
وَلَوْ بَاعَهَا مُرَابَحَةً فَإِنَّ رَأْسَ الْمَالِ الْجِيَادُ.
وَفِي الْأَجْنَاسِ: اشْتَرَى بِالْجِيَادِ وَنَقَدَ الزُّيُوفَ ثُمَّ حَلَفَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِالْجِيَادِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَا يَحْنَثُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْنَثُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

متن الهداية:
قالَ: (وَإِذَا أَفْرَخَ طَيْرٌ فِي أَرْضٍ رَجُلٍ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ) وَكَذَا إذَا بَاضَ فِيهَا (وَكَذَا إذَا تَكَنَّسَ فِيهَا ظَبْيٌ) لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ وَإِنْ كَانَ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حِيلَةٍ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَكَذَا الْبَيْضُ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ وَلِهَذَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكَسْرِهِ أَوْ شَيِّهِ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ لَمْ يُعِدَّ أَرْضَهُ فَصَارَ كَنَصْبِ شَبَكَةٍ لِلْجَفَافِ وَكَذَا إذَا دَخَلَ الصَّيْدُ دَارِهِ أَوْ وَقَعَ مَا نُثِرَ مِنْ السُّكَّرِ وَالدَّرَاهِمِ فِي ثِيَابِهِ مَا لَمْ يَكُفَّهُ أَوْ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَسَّلَ النَّحْلُ فِي أَرْضِهِ لِأَنَّهُ مِنْ أَنْزَالِهِ فَيَمْلِكُهُ تَبَعًا لِأَرْضِهِ كَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِيهَا وَالتُّرَابِ الْمُجْتَمِعِ فِي أَرْضِهِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ وَلَوْ أَفْرَخَ طَيْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ وَكَذَا إذَا بَاضَ فِيهَا وَكَذَا إذَا تَكَنَّسَ فِيهَا ظَبْيٌ، أَيْ دَخَلَ كِنَاسَهُ وَالْكِنَاسُ بَيْتُ الظَّبْيِ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ تُكْسَرُ: أَيْ وَقَعَ فِيهَا فَتُكْسَرُ، وَيُحْتَرَزُ بِهِ عَمَّا لَوْ كَسَرَهُ رَجُلٌ فِيهَا فَإِنَّهُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَا لِلْآخِذِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الطَّيْرِ وَالْبَيْضِ وَالْفَرْخِ وَقَدْ أُصْلِحَ فِي نُسْخَةٍ لِأَنَّهَا (مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ) أَيْ يَدُ الْآخِذِ إلَيْهِ (وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ وَإِنْ كَانَ يُؤْخَذُ بِلَا حِيلَةٍ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ وَالْبَيْضُ أَصْلُ الصَّيْدِ) فَيُلْحَقُ بِهِ (وَلِهَذَا يَجِبُ عَنْهُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكَسْرِهِ أَوْ شَيِّهِ) لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِقولهِ تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} فِي قوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} كَذَا ذُكِرَ.
وَقولهُ (وَصَاحِبُ الْأَرْضِ لَمْ يُعِدَّ أَرْضَهُ لِذَلِكَ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ هِيَ قَيْدٌ لِقولهِ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ: أَيْ إنَّمَا يَكُونُ لِلْآخِذِ إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَعَدَّهَا لِذَلِكَ بِأَنْ حَفَرَ فِيهَا بِئْرًا لِيَسْقُطَ فِيهَا أَوْ أَعَدَّ مَكَانًا لِلْفِرَاخِ لِيَأْخُذَهَا، فَإِنْ كَانَ أَعَدَّهَا لِذَلِكَ لَا يَمْلِكُهَا الْآخِذُ بَلْ رَبُّ الْأَرْضِ يَصِيرُ بِذَلِكَ قَابِضًا حُكْمًا، كَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً لِيُجَفِّفَهَا فَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدٌ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ لَا لِصَاحِبِ الشَّبَكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعِدَّهَا الْآنَ لِلْأَخْذِ، وَكَمَا إذَا دَخَلَ الصَّيْدُ دَارِهِ وَلَمْ يَعْلَمْهُ فَأَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ وَأَغْلَقَ الْبَابَ عَلَيْهِ أَوْ سَدَّ الْكُوَّةَ كَانَ لِصَاحِبِ الدَّارِ، وَكَذَا إذْ وَقَعَ فِي ثِيَابِهِ النِّثَارُ مِنْ السُّكَّرِ أَوْ الدَّرَاهِمِ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ مَا لَمْ يَكُفَّ ثَوْبَهُ عَلَى السَّاقِطِ فِيهِ، وَمَا هَذِهِ مَصْدَرِيَّةٌ نَائِبَةٌ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ: أَيْ لِلْآخِذِ فِي زَمَانِ عَدَمِ كَفِّهِ الثَّوْبَ.
وَقولهُ أَوْ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهُ: أَيْ لِلنِّثَارِ بِأَنْ بَسَطَ ثَوْبَهُ لِذَلِكَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ، فَإِذَا كَفَّهُ أَوْ كَانَ مُسْتَعِدًّا فَهُوَ لَهُ، أَمَّا إذَا عَسَّلَ النَّحْلُ فِي أَرْضِهِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ عُدَّ مِنْ أَنْزَالِهِ: أَيْ مِنْ زِيَادَاتِ الْأَرْضِ: أَيْ مَا يَنْبُتُ فِيهَا فَيَمْلِكُهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ كَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِيهَا وَكَالتُّرَابِ وَالطِّينِ الْمُجْتَمِعِ فِيهَا بِجَرَيَانِ الْمَاء عَلَيْهَا.
وَالْأَنْزَالُ جَمْعُ نُزُلٍ وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَذُكِرَ ضَمِيرٌ؛ لِأَنَّهُ وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَكَانِ، وَمِثْلُهُ وَقَعَ فِي شِعْرِ الْعَرَبِ قَالَ:
فَلَا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ** وَلَا أَرْضٌ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا

وَمِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ: لَوْ اتَّخَذَ فِي أَرْضِهِ حَظِيرَةً لِلسَّمَكِ فَدَخَلَ الْمَاءُ وَالسَّمَكُ مَلَكَهُ؛ وَلَوْ اُتُّخِذَتْ لِغَيْرِهِ، فَمَنْ أَخَذَ السَّمَكَ فَهُوَ لَهُ، وَكَذَا فِي حَفْرِ الْخَفِيرَةِ إذَا حَفَرَهَا لِلصَّيْدِ فَهُوَ لَهُ أَوْ لِغَرَضٍ آخَرَ فَهُوَ لِلْآخِذِ، وَكَذَا صُوفٌ وُضِعَ عَلَى سَطْحِ بَيْتٍ فَابْتَلَّ بِالْمَطَرِ فَعَصَرَهُ رَجُلٌ، فَإِنْ كَانَ وَضَعَهُ لِلْمَاءِ فَهُوَ لِصَاحِبِهِ وَإِلَّا فَالْمَاءُ لِلْآخِذِ، وَلَوْ بَاضَ صَيْدٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ أَوْ تَكَسَّرَ فِيهَا فَجَاءَ رَجُلٌ لِيَأْخُذَهُ فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ صَاحِبُ الْأَرْضِ عَلَى أَخْذِهِ قَرِيبًا مِنْهُ بِأَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ كَانَ الصَّيْدُ لِرَبِّ الْأَرْضِ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ لَا يَمْلِكُ.